TOP

جريدة المدى > عام > أين اختفت مكتباتهم؟

أين اختفت مكتباتهم؟

نشر في: 9 إبريل, 2014: 09:01 م

كانت المكتبة أول هدف للشرطة السرية بالعراق، فما أن يُعتقل الباحث أو الكاتب، إلا وبعثرت مكتبته بحثاً عن كتاب ممنوع. وكان الأهالي يخفون كتب أحبائهم من المعتقلين بطرق شتى، كدفنها تحت الأرض، أو نقلها إلى جار مؤتمن. وآخرون كانوا يقطعون رأس البلية، الكتاب،

كانت المكتبة أول هدف للشرطة السرية بالعراق، فما أن يُعتقل الباحث أو الكاتب، إلا وبعثرت مكتبته بحثاً عن كتاب ممنوع. وكان الأهالي يخفون كتب أحبائهم من المعتقلين بطرق شتى، كدفنها تحت الأرض، أو نقلها إلى جار مؤتمن. وآخرون كانوا يقطعون رأس البلية، الكتاب، بحرقه أو إتلافه بطريقة ما. وما أكثر كنوز، لا صلة لها بالسياسة، أتلفتها أمهات لا يقرأن ولا يكتبن، ويتخيلن كل كتاب مصيبة. وكل مثقف، عاند السلطة، أو تجرأ على عدم مسايرتها، قصة مع مكتبته داخل العراق، ناهيك من حياة الترحال التي عاشها المنفيون منهم، وما يتعلق بتأسيس المكتبات، ثم لا يحمل منها أكثر من عشرين كليوغراماً، وهو الوزن المسموح به في الطيارت، حين يغادر إلى منافي وملاجئ أخرى، وما أكثرها.
مَنْ بحث في كتاب «العراق بين احتلالين» لعباس العزاوي (ت 1971)، سيقدر عدد المصادر التي استخدمها هذا المؤرخ، وسيتعاطف مع أحزانه، وهو على فراش الموت، على مصير مكتبته العامرة، وقلق ابنته على ذخيرة والدها. وكذلك الحال بالنسبة للأب ماري أنستاس الكرملي (ت 1947). كان مصير مكتبة العزاوي، حسب ما نقله لي الأديب مير بصري (ت 2006)، أنه شاهد عمال يرمون بالكتب من الشبابيك إلى بطن سيارة مكشوفة، وكأنهم يرمون بطابوق. أما مكتبة الأب الكرملي، فقد حشرت في مكتبة الموصل، وتفرقت شذر مذر، من دون أن يحفظ اسمه عليها، ومعلوم ما كان فيها من نفائس الأثر.
وللعلم أن نشأة المكتبة الوطنية العراقية كانت فضلاً من أفضال هذا العالم، إذ تبنى نشأتها العام 1922، وبدأت تحت اسم مكتبة السلام، ثم نقلت محتوياتها لتأخذ اسم المكتبة العامة، ثم المكتبة الوطنية (1961)، وأُلحقت بوزارة الثقافة والإرشاد (قزانجي، المكتبات في العراق).
أتذكر عندما صحبني الأديب سالم الدباغ (توفي منتصف الثمانينات)، وكنت أحد تلاميذه، إلى بيت الأديب واللغوي هاشم الطعان (ت 1980) هالني عدم رؤية جدران في الدار، فقد غُلفت بالمجلدات، وتكوم بعضها على الروازين، وتحت السلالم. وما زاد دهشتي، أنه كان ينوي شراء مكتبة أحد المتوفين من العلماء!. وسألت هيثم نجل الطعان عن مصير مكتبة والده، فقال بحسرة كبيرة إنه بعد وفاة والده، واعتقاله، ثم إطلاق سراحه، من دون إكمال مدة الحكم 25 عاماً، جاءه الأديب ماجد العزي، وكان بعثياً، وعلى صلة جيدة بوالده، واقترح عليه بيعها إلى جامعة بغداد. لكن الجامعة رفضت شرطه، وهو أن تخزن تحت اسم صاحبها.
ثم أعاد عليه الكرة واقترح بيعها إلى جامعة الكوفة، التي قبلت بالشرط. وسريعاً حُملت الكتب باللوريات تحت نظرات أفراد الأسرة الحزينة، ففي كل كتاب لفقيدهم لمسة من يده وخفقة من روحه، وقد جمعها، رغم العوز، كتاباً كتاباً.
ولما ذهب هيثم إلى جامعة الكوفة لاستحصال ثمن المكتبة، وهو لايزيد على ما يُقابل أربعمئة دولار ، كانت المفاجأة أن الكتب «فرهدت» قبل دخولها إلى الجامعة، وقسمت بين الأساتذة والمسؤولين، ولم يبق منها غير كتيبات، وليس هناك اسم لصاحبها ولا يحزنون. والأنكى من هذا لم يتمكن من استحصال المبلغ، وقد أنسل ماجد العزي من العملية برمتها. هذه باختصار قصة إحدى مكتبات أدباء ومثقفي العراق في الداخل.
كان الراحل مير بصري حزيناً على مصير مكتبته، خائفاً أن تلاقي مصير مكتبة العزاوي، وأن يزال اسمه من على كتبه مثلما أزيل اسم الكرملي. مازالت مكتبة بصري بداره بلندن. عائلته لم تفعل شيئاً بها، إلا أنها ما تزال بعيدة عن بغداد، وكانت نيته أن تكون هناك. ومن ثمرات مكتبة بصري كتبه في طبقات المجتمع العراق «أعلام السياسة في العراق الحديث»، «أعلام الأدب في العراق الحديث»، «أعلام التركمان.. »، «أعلام الكرد.. » وغيرها.
يعيش المعاناة نفسها المعماري محمد مكية، ، بعد أن أُغلق ديوان الكوفة، ووجدت مكتبته طريقها إلى الخزن، في مخازن باردة، وكان يمر بها يومياً ملامساً ورامقاً صفوفها، وفيها كتب تعود للقرن السابع عشر.
وما زال ينتظر نقلها إلى بغداد أيضاً. لكن بغداد، وقبل ثلاثة عقود، لاهية عن الكتاب بعذابها، وليست هناك جهة تؤمن الكتب إلى مستقرها في القسم المعماري الذي أسسه (1959)، ووعد فيها أحفاده وحفيداته من المعماريين عند زيارته بغداد قبل سنوات  بدأ مكية بجمعها منذ الأربعينات، وأخذ يستخدمها كذخيرة، تصاحبها مكتبة من المخطوطات العربية والفارسية، ومجموعة نادرة من اللوحات الفنية لكبار الفنانين العراقيين.
ووجدت وزير المال الأسبق عبد الكريم الأزري،( ت2101) محتضناً مكتبته الشخصية كالأب، معتنياً بها كل العناية. ويحاول من أول وهلة إشعارك أنه لا يعير كتاباً، ويرمقك بنظرة اعتراض وأنت تتصفحه، وكأنه ما صُنف إلا له.
فيها الكثير من الكتب النادرة، المعروضة بتبويب مكتبي سليم، وبنظام مريح للباحث. إنها تحتل أكثر من غرفة من داره، ولا ينوي أن يهديها أو يوصي بها، وذلك لشدة تعلقه بها، فبفضلها صدرت له عدة مؤلفات خاصة بالتاريخ السياسي العراقي، إلا أنه ربما أكثر حظاً من غيره، فلديه ولده حيدر مولع بالكتب، لديه مكتبته الخاصة، بعد أن نشأ نشأة طويلة بالعراق.
وفي لقاء بعمان أخبرني علي نجل اللغوي إبراهيم السامرائي الأكبر (ت 2001) عن مصير مكتبة والده، إنه لما طلب منه أن يصبح مصححاً لغوياً في القصر الجمهوري (1981)، بامتيازات يحصل عليها كبار موظفي القصر، ورد والده على الطلب بالقول: «أنا أستاذ جامعي، وكل وقتي أقضيه بين كليتي والدار، فليس لي غيرهما».
وكان محسوباً على اليسار من غير انتظام في حزب، بمعنى أنه لم يكن على وئام مع السلطة. عندها توجس السامرائي شراً مما ستأتي به الأيام القادمة، على خلفية رفضه طلباً موجهاً من صدام حسين، فحمل مكتبته وأسرته وهجر العراق، وعمل في عدة بلدان، ومنها اليمن، وبسبب تدخل أحد الإخوان المسلمين العراقيين وبعثيين عراقيين هناك، تغير موقف الجامعة منه، فعاد ثانية واستقر بالأردن حتى وفاته. أما مكتبته، التي تنقل بها من مكان إلى آخر، فأهديت إلى المجمع الثقافي بدبي، ومكتبة المجمع العلمي الأردني، ولا ندري هل يحتفظ باسمه عليها أم لا. وكانت ثمرتها نحو مئة كتاب من تصنيفه، وأبرزها تحقيق كتاب «العين» للفراهيدي. وكان محمد مهدي الجواهري (ت 1997) لا يطمئن إلا لمشاركة السامرائي في تحقيق ديوانه.
عراقيون آخرون أرقهم السؤال حول مصير مكتباتهم، بعد سنوات طويلة من جمعها، وحملها بين العواصم، وتحمل شكاوى العائلة وضيق العيش بسببها، إضافة إلى تكاليف شراء الكتب نقلها وخزنها. صمت نجدة فتحي صفوة عندما سألته عن مصير مكتبة عباس العزاوي، وماذا ستفعل عائلة مير بصري، إن كان لديه تصور، بكتبه، وقبل الإجابة قال: «وأنا كذلك! لا أدري ما سيؤول إليه مصير مكتبتي». وهي تملأ شقة خاصة بها، بالإضافة إلى الكتب الموجودة في شقته المجاورة، التي يسكن فيها. وهو يفكر بإهدائها إلى إحدى الجامعات، والأولى إلى العراق، إن كان هناك مَنْ يستقبلها. إنها مكتبة ثرية بالكتب التاريخية، وعلى وجه الخصوص تاريخ العراق وتاريخ المملكة العربية السعودية. ولا أدري كم سيكلف نقلها إذا حسم أمره، واختار الإقامة بالأردن، كما يفكر.
ويراود القلق نفسه المحقق والباحث جليل العطية، المقيم بباريس، وقد جمع مكتبة من نفائس كتب التراث، وما يختص باهتمامه، حتى أغنته في العديد من مصنفاته عن زيارة المكتبات العامة، فعمل مثل «الذخائر الشرقية» لتركة أستاذه كوركيس عواد، وعشرات التحقيقات لا توفر مصادرها إلا مكتبة عامرة. ولما فاجأته بالسؤال: هل فكرت بمصير مكتبتك؟ قال: «كان الأمل، وما زال، أن تستقر ببغداد، ضمن مركز بحوث ودراسات، أو جمعية تهتم بالتراث والتاريخ، يستفيد منها الباحثون والدارسون». وخصوصاً بعد ما فقدت مكتبات بغداد من درر الكتب.إلا أنه حتى هذه اللحظة ليس لديه تصور آخر، ولا مفك من القلق على سبعة آلاف كتاب، ومصورات لكتب قديمة ومخطوطات. إنها محنة حقيقية، فأولاده بعيدون عن الاهتمام بمثل هذا الميراث، ولا يعنيهم الكتاب العربي، نتيجة نشأتهم في باريس.
اقتصادي النفط فاضل الجلبي، تحدث عن ترحال طويل ومستمر، كلما شيد مكتبة ودعها بمكان، ولا يحمل منها غير القريب إلى نفسه، إلا أنه تحدث بمرارة عن مكتبة نفيسة ببغداد، التي أودعها في دار أهله، منضدة في صناديق تحتل السرداب، الذي اشتهرت به بيوت بغداد القديمة، وقد داهمها الماء، ولم ينج منها كتاب واحد. كانت تحتوي على مؤلفات أدباء من الأربعينات والخمسينات، مزينة بإهداءاتهم الشخصية، ومنها دواوين الشاعرة نازك الملائكة وإهداءات بخطها.
أما الشاعر صلاح نيازي فقد حسم قلقه سريعاً، وحافظ على التناسب بين حجم الدار ورفوف المكتبة، وجعلها ثابتة على أربعة آلاف كتاب، حيث أخذ يعزل شهرياً ما يفيض لديه ويهديه إلى مكتبة جامعة لندن، أو مكتبات بريطانية أخرى، وهو يرى أنها أكثر حفظاً وصوناً من تسفيرها إلى بغداد، شأنها شأن الآثار العراقية، التي تحتفظ بها المتاحف الأوروبية بكل قداسة، مصانة من نوبات فرهود أو تحطيم واتجار. وفي حديثه تذكر هوس الأديب والمترجم نجيب المانع (ت 1982) بجمع الكتب، في كل مدينة وعاصمة يحل بها. أسس مكتبة بالزبير، ثم ببغداد، ثم ببيروت، وقد باعها بـ18 ألف دولار، ليؤسس مكتبة جديدة بلندن. وما تزال شقيقته الكاتبة سميرة المانع تحاول إيصالها إلى جامعة البصرة، حيث مسقط رأسه، أو أي خزانة كتب عراقية تحتضنها.
هذه الأسماء مجرد نماذج قليلة تعكس عمق القلق على مصائر الذخائر من الكتب والمخطوطات، والأعمال الفنية، وكل واحد من هؤلاء، وغيرهم المئات من مشاهير الثقافة العراقية، تركوا مكتبات عامرة لهم بالعراق، موزعة صناديقها على منازل الجيران والأصدقاء، ومنهم مَنْ هجر المكان، وطرحها أمانة عند غيره، ثم انقطعت الأخبار، ومنهم مَنْ غادر الحياة، وصار مصير المكتبات إلى الباعة المتجولين، مفروشة على قارعات الطرق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. جليل كاظم

    ألآ يشبه مصير المكتبات هذا بشكل ما مصير شعراء وكتاب وفناني العراق؟

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram