اختتم معرض أربيل للكتاب اعماله السبت. مهرجان النشر والأوراق والكتب الذي تنظمه المدى، فرصة للتواصل لا مع ما ينتجه العرب والاكراد ويترجمونه وحسب، بل اتاح لي وللزملاء، التماس مع قارئ مثالي، تختلف او تتفق معه، لكنه يحاول الهرب من سياسة الانفعال والارتجال "الماحقة الحالقة"، و"إجالة النظر بترو" فيما تبقى لنا من التاريخ غير المضيع.
هنا لا تدري، هل اربيل محظوظة بـ"المدى" التي توظف خبراتها الثقافية لتبتكر هذا الحدث العراقي الكبير. ام ان المدى محظوظة كما نحن، بالعثور على فرصة كهذه، تتقاطع خلالها الاصوات على شكل حجاج عقلي وتبادل مثمر، وتكاد تنسيك أسوأ ما في سياستنا، لتدير رأسك ثانية نحو طعم المعرفة الابهى وكأسها المعلى وبياض البراءة بين سواد النقوش والخطوط!
الجميع هنا، يبحثون عن جديد سوق النشر، ونازحو الانبار المقيمون في مناطق كردستان، يأتون بشبابهم ليتسلون بالقراءة عن مدن عالقة في اكثر المصائر غموضاً وعجزاً.
اهل الموصل المحاذية، يثيرون نقاشاً حول "وطن يباع بصك غبي مرة كل ثلاثين سنة".
ناشرون من سوريا احاول ان اواسيهم ببضع كلمات على حرائق غابات الزيتون، فيغنون لي "جاي فرح.. ليغير حالنا."
مثقفونا المغتربون، جاؤوا ليوقعوا قصائد لاتينية ترجموها، وأيضا ليلتقوا بأهليهم، فقد تعذرت زيارة مسقط الرأس الذي يبعد عن أربيل ساعة ونصف بسبب الحرب بين داعش والجميع!
الاسلاميون يشترون كتب الحديث والسيرة والفقه، ويجادلون حول شكل الوطن، دون ان ينكروا ان الصيغة التي تقترحها اربيل للتعايش، قابلة للتطوير، وقابلة للجمع بين الاراء المتصارعة جنوباً. يحاججونك بآراء متشددة، فتأخذهم الى سعة عبارة ابن رشد، او حسن نثر الجاحظ بشجاعة المعتزلة، فيتذكر الجميع ان الاجداد لم يكونوا كلهم على شاكلة واحدة، وأن التنوع الذي قاتلوا لشرعنته طيلة قرون، سيبقى مشروعاً لنا ايضا، كحق لنا ولهم، لن نتنازل عنه.
وبخلاف من يعتبر "المدى" وجريدتها وباقي اذرعها الثقافية والصحفية، جهة تشاغب وتمارس "الشقاوة" وتكرس جهدها "ضد رجل واحد"، فإن القراء متنوعي المشارب، الذين التقيتهم خلال ١٠ ايام هي مدة عرس الكتاب، كانوا يجدون في المدى، الداعية البارزة الى التصالح بين الاطراف المتصارعة، وصوت الاعتدال الذي يشجع الجميع، على المراجعة الجادة للارتجال والتسرع، والتمسك بـ"اجالة النظر والتروي" في تصميم الحلول، والاعتراف بأننا بحاجة الى اعترافات كبيرة، ليس الهدف منها ان نستسلم لداعش ولا لأي صوت متطرف، بل لكي نخوض حرب العقلاء على الحمق، ونتجنب العلوق في صراع بين اطراف مجنونة.
حتى ممثل حزب الفضيلة، والذي حصل بينه وبين المثقفين ما حصل، طيلة سنوات، وتعرض الى استجواب شديد من قبل الحضور في ندوة حول قانون الاحوال الجعفرية، شكر المدى، لانها اتاحت لوجهات نظر متعددة ان تعبر عن نفسها.
سألتني صحفية من محطة اوربية جاءت لتغطية نشاطات المعرض، عن دور المثقف "العلماني" في العراق. فأجبتها اننا "الاقل حظاً" ربما في التمثيل السياسي اليوم، لكننا لن نندم على رسالة مهمة حملناها بين صفوف المتصارعين وتشددهم. وطوال اعوام سبقت سقوط صدام حسين، واتصلت بأحلك ليالي العهد الجديد، بقينا متمسكين بأن عقيدة التسامح والتعايش والتبشير بالحداثة السياسية والمجتمعية، ليست نقص شجاعة، واستخدمنا كل فنون القول لنحاول تذكير الناس بأن حمل السلاح ليس الميزة الوحيدة للفرسان، ففضيلة السيف انه يدافع عن الحكمة والتعقل، وحين تنام العقول وتتبلد، تفسد كل السيوف وتصبح بلا جدوى. قلت للافرنجية: ان هذا دور لن نمل من الايفاء به، وليس بلا طائل، فكلما تصاعد الحمق، استطاع الناس ادراك اهمية التعقل، وتزايد انصار الاصلاح، وهذه سعادات بلا نهاية.
سعادات المدى والناس
[post-views]
نشر في: 12 إبريل, 2014: 09:01 م