اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > السلاحف تموت على الطريق

السلاحف تموت على الطريق

نشر في: 12 إبريل, 2014: 09:01 م

لم أعش في أوروبا كي تكون مقارنتي صحيحة بشان المدينة والريف، ولا أعرف ما إذا كانت طباع اهل المدينة تختلف عن طباع اهل الريف هناك، ولا املك من العلم ما يدلني على أن الحكومات في تلك البلاد تسعى لتقويض الريف لحساب المدينة، لكنّي على يقين بأن الريف الانجليزي أو الدنمركي أو الهولندي على سبيل المثال عوالم غير محدودة من الجمال والغنى، ولا يصنف الفلاحون والمزارعون من طبقة الفقراء ، بل هم الأغنياء حقاً .ولكي أبقي قلبي مشغولا بقيت أفكر ليلتها بالغزلان التي على الطريق الريفية بين لندن وبيت الشاعر سعدي يوسف، الذي أعلمني حين التقيته هناك، بأنه لا يود التأخر اكثر، ذلك لأن سائقي المركبات يبطئون من سيرهم إذا حلَّ الظلام، خشية أن تصدم مركباتهم قطعان الغزلان التي تعبر الطريق من الغابة هذه إلى الغابة تلك .
 تذكرت الحكاية هذه وأنا أفكر بالرد على الكاتبة والروائية الصديقة دنى طالب، ابنة الفنان والملحن المعروف طالب غالي التي تعيش وعائلتها في كوبنهاغن منذ اكثر من 30 سنة، هي التي كتبت لي قائلة ما إذا كانت السلاحفُ والثعابين والضفادع والقنافذ والسناجب وبنات آوى ما تزال تعبر الطريق من أنهار وجداول البستان هذا إلى ذاك على طول الطريق التي بين البصرة وأبي الخصيب، في المشهد الذي كان معروفا لمستخدمي المسافة تلك ؟ لم أتمكن من إمساك لحظة الدهشة التي انتابتني ساعتها، ذلك لأن العزيزة دنى لم تشهد الصورة بعينها حيث تركت الوطن وهي غرٌّ صغيرة.
 ولأن المشاهد هذه جزء من ذاكرة المكان الممتد نخلاً وانهاراً وغبطةً من نهر الخورة وقرية البراضعية حتى آخر نقطة في رأس البيشة بالفاو، ولأن غابة النخل تلك كانت واحدة من جنان العراق والجنوب العربي حيث كانت مستوطنة لمختلف الحيوانات البرية بما فيها الذئاب والخنازير الوحشية فضلاً عن انواع كثيرة من الافاعي والثعابين والسلاحف والقنافذ وبنات آوى وسواها من اصناف الطيور والزواحف وغيرها، ولوقوعها بين النهر (شط العرب) وصحراء الزبير فقد ظلت مأوى ليلياً لكثير من وحوش البرية، التي تعبرها سراً تحت جنح الليل،  مثلما هي حديقة واسعة لأنواع متعددة من الطيور. اما المشهد الذي ظل في ذاكرة الزائرين فهو الذي تستحضره دنى، وهي تتحدث عن السلاحف والأفاعي التي غالبا ما كانت تموت تحت عجلات مركبات الخشب، وهي تقطع الطريق فجراً، محملة بأصناف الخضار والفاكهة، قاصدة  سوق المدينة الكبير في البصرة القديمة.
 يقول سائق المركبة الخشب-جارنا- الذي يتخذ من ركن منهدم قرب بيتهم مجلسأ له اليوم، بعد ان اعياه الزمن تعباً ونحولاً، بأنه كان غالباً ما يتوقف ليقطف العنب والتفاح والرطب من البساتين وهو جالس في مقعده بالمركبة، ذلك لأن الطريق كانت ضيقة إلى الحد الذي تخشى على وجهك من لطم أغصان الخرنوب والتوت التي تدخل عليك من النوافذ، فقد كانت الأشجار تحفُّ المركبة في كثير من الأماكن، أما إذا وصلنا قرية مهيجران فجراً، أي قبل عبورنا الجسر، فقد كنّا نتوقف ونفتح الشبابيك لتمتلئ صدورنا برائحة أزهار ملكة الليل، وفي قرى مثل اليهودي والسبيليات ودرب المحيرات ومحيلة الصكاروة وغيرها يصير بمقدورنا انتقاء النوع الذي نريده من الرطب، اثناء مرورنا قاصدين العشار أو عائدين منه، ومشهد الافاعي والسلاحف التي تدهسها المركبات مشهدٌ يوميٌّ، حيث نكون غير قادرين على تفادي دهسها احيانا. كان موسم الربيع بخاصة، حين يبلغ مستوى ماء المدّ أعلى منه في أيام السنة، آنذاك تتحول القطعة السندسية تلك إلى واحدة من اجمل بقاع الكون، فرائحة قداح الطلع والمشمش والخوخ والبمبر والفاكهة والخضار تجعل المكان فاغماً، يضوع بكل انواع العطور. عن أي ذكرى جميلة اتحدث؟
  العزيزة دنى: الذي ظل مما كنت تشاهدينه، أو تسمعين به قليل جداً، بعد أن فقدت الغابة مقدرتها على حماية مستوطنيها من السلاحف والأفاعي والقنافذ، بعد أن قطّعت الجرافات أوصال غابة النخل، بعد أن اقتلعت المسرفات النخيل وأشجار الفاكهة، وبعد أن امحت الظلال تلك هاجر الكثير من أصدقائنا من سكان الطبيعة، الذين لم يكن لحياتنا معنى لولاهم. اتحدث عن الضواري التي كنت اتفادى أسرابها ليلا ، أتحدث عن البلابل والعصافير الملونة، عن السناجب وبنات آوى وبنات عرس التي كانت تملأ بطونها من دجاج غفلتنا، عن خنازير البرية التي كانت تعبث بحقل البرسيم ،عن النجوم التي كنا نجمعها من الانهار آنذاك. 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram