تجتمع العائلة في غرفة المعيشة، عادة، في المساء، بعد عودة الأب والأم من العمل والابنتين من المدرسة ويكون التلفاز خامسهم، واحداً من أفراد العائلة، سواء كانت هذه العائلة حاضرة بأفرادها الأربعة أم بعضهم، غير ان التلفاز هو الأكثر تهذيباً بينهم، يصمت ويختفي بكبسة زر من الروموت أو يظهر ويثرثر بضغطة زر ثانية.
التلفاز ميدان معركة صامتة بين أفراد العائلة، عندما تبحث الابنتان عن برامجهما المفضلة، وهما المولودتان في عاصمة أوروبية، أي في ثقافة مختلفة، لكنهما لا تعانيان، مثل والديهما، مشكلة ازدواج الهوية، فهما منتميتان، بالكامل (تقريباً) إلى مجتمعهما الأوروبي، وأقول تقريباً لأنهما على شيء من مجاراة الوالدين في بعض أخلاقهما، في نوع من المجاملة العائلية: عدم جرح المشاعر العربية للوالدين.
البنت الصغرى تؤدي واجباتها المدرسية، وهي تنظر في أكثر من اتجاه: برنامجها التلفزيوني المفضل وهاتفها النقال: الآيفون، المفتوح على الفيسبوك لتدردش مع صديقة أو أكثر (أو مع صديق!) بينما كتابها المدرسي مفتوح على ركبتيها!
البنت الكبرى، بعد تجاوزها فترة المراهقة الأولى، فهي في الثانية والعشرين من عمرها، هي الآن أكثر انفصالاً عن العائلة، إذ تمكث في غرفتها الساعات الطوال "متصلة" مع عالمها الخاص، بين متابعة المواقع المعنية بإيجاد عمل لها بعد ان قررت التوقف عن مواصلة دراستها الجامعية بذريعة أن آلاف الشباب، مثلها، يتخرجون من الجامعة ليجلسوا في البيوت حيث يندر عثورهم على أي عمل ذي علاقة بتخصصاتهم، وهو مبرر معقول لكنه ليس بالمطلق.. لكن هذه البنت "تتواصل" أيضاً مع أصدقاء لا أعرفهم، طبعا، تحت باب عدم التدخل في خصوصياتها التي يحميها القانون، أي ليس بمقدور الأب ولا الأم، ولا أي شخص آخر، قريب أو بعيد، أن يتدخل أو يفرض بالإكراه هذا الموقف أو ذاك الرأي على الابن والابنة، فالقانون يمنع الأبوين من إجبار أي منهما على سلوك لا يؤمن به ولا يقتنع ولا يرضي، أي أن على الأبناء إبلاغ الشرطة في حالة تعرضهم إلى أي إكراه من قبل الوالدين، وقد يتعرضون للاعتقال والمحاكمة إذا ثبت ذلك.
يذهب الأب إلى غرفته، حيث مكتبه ومكتبته وحاسوبه وهاتفه النقال، وهو الآخر منقسم/ متصل اجتماعياً: منقسم بين ان يكتب أو يتصفح على حاسوبه، أو "يتواصل" إلكترونياً مع أصدقاء على الفيسبوك، بينهم أصدقاء طفولة أو زملاء مدرسته الابتدائية، بعد ان انفصل عن العائلة إلكترونياً، وواقعياً، أيضاً.
ثمة اتصال وانفصال في الوقت عينه، إذن، فأن تكون على تواصل اجتماعي، عبر وسائل الاتصال المعروفة، فأنت منفصل عملياً عن أفراد أو مجموعات أخرى، لكن الانفصال عن الأسرة، والانفصال داخلها، هو الذي يصبح بالضد من ستراتيجية التواصل الإلكتروني وهدفه، وبالقدر الذي يتيحه هذا التواصل من "تواصل"، وهو قدر هائل وجدير بالإعجاب، طبعاً، فأنه يضعنا في انفصال تام عن الجانب الآخر، الجانب الواقعي، مقابل الجانب الافتراضي المتاح بشكل مدهش.
ليس مستغرباً ان ترى ركاب المترو أو الحافلة كلا منكب على آيفونه ويسد أذنيه بسماعتيه مستمتعا بموسيقاه المفضلة أو بدردشته مع صديق أو صديقة أو حبيبة، أو يلعب لعبته الإلكترونية لتزجية الوقت، لكن المثير للقلق هو ذلك الانفصال الممض داخل البيت، بين أفراد الأسرة، بل بين الأب والأم، والبنت والابن، حيث يتصل كل منهما بعالمه الخاص، بينما ينفصل كل منهما عن الآخر، ومن ثم عن بقية أفراد الأسرة وقد سرق الجميع من الجميع تحت بند افتراضي ذي سلطة جبارة، قد يكون الإدمان احد عناصر شرطتها القساة، وهو البند الذي نسميه: التواصل الاجتماعي!
إنه بند غير قابل للحوار أو الجدل أو الاعتراض، مثل أي سلطة توتاليتارية لا تسمع غير صوتها الواحد وهي سعيدة به، والكارثة إنها سلطة تقدم خدماتها الرائعة لسكنة الأرض والسماء، في كون مفتوح الأبواب.
تواصل.. انفصال اجتماعي
[post-views]
نشر في: 14 إبريل, 2014: 09:01 م