عن 86 عاما عاشها مغامرا ومناصرا وكاتبا ، بيتر ماتيسين يودعنا من منزله بفلوريدا في الخامس من أبريل / نيسان الجاري وإلى الأبد بسبب إصابته بسرطان الدم الذي داهمه منذ عام بحسب ما أخبر به ناشره ريفير هيد ، وقد ترك لنا إرثا ثقافيا كبيرا كان على رأس ذلك الإ
عن 86 عاما عاشها مغامرا ومناصرا وكاتبا ، بيتر ماتيسين يودعنا من منزله بفلوريدا في الخامس من أبريل / نيسان الجاري وإلى الأبد بسبب إصابته بسرطان الدم الذي داهمه منذ عام بحسب ما أخبر به ناشره ريفير هيد ، وقد ترك لنا إرثا ثقافيا كبيرا كان على رأس ذلك الإرث روايته الذائعة الصيت " ذا سنو ليوبارد " التي أصدرها عام 1978 ، ثم توج مسيرته الروائية بـ " إن بارادايس " أو " في الجنة " الصادرة هذا الشهر عن دار نشر ريفير هيد بوكس ليطوي بها مسيرته الحافلة بالكتابة والمغامرة بالسفر لمناطق نائية من العالم ومدافع قوي عن حقوق سكان أمريكا الأصليين الهنود الحمر .
ماتيسين تقلب في حياته في مهن متنوعة حيث عمل في مطلع حياته المهنية في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ، وكان أحد المشاركين المهمين في تأسيس مجلة " باريس ريفيو " الأدبية واسعة الانتشار ، وأحد الصيادين للحيوانات النادرة التي جاب من أجلها مناطق نائية من العالم في مهمة لمجلة " نيويوركر " العريقة ، إضافة إلى مزاولته الكتابة ودفاعه عن البيئة ووقوفه لنصرة الهنود الحمر في مطالبتهم لحقوقهم المشروعة مخالفا بذلك عائلته التي كافح بالخروج من رأسماليتها إلى بوهيمية الحياة البسيطة بكل صورها ، تلقى وقتها تعليمه في أرقى المدارس الإعدادية وتخرج بعد ذلك من جامعة ييل التي طالب بعدها بإزالة اسمه من سجل عائلته الاجتماعي للسبب أعلاه ما جعله يركب السفن مشردا كما كان يقول دائما ، يجدف عبر الأدغال ويذهب بعيدا عبر جبال الهيمالايا ليمارس من هناك رياضة التأمل في رحلة استمرت حتى وفاته والتي انعكست آثارها على أكثر من 30 كتابا تصدرتها روايته الأثيرة على نفسه " سنو ليوبارد " التي قال عنها إنه حصل بسببها على جائزة الكتاب الوطني عام 1978 ، هي رحلة روحية عبر جبال النيبال حيث أوحت له عام 2007 بثلاثية روائية تدور في عدد من جزر فلوريدا يتم في إحداها مقتل أحد أصحاب المزارع الذي يعرفه سكانها بغطرسته وطغيانه ، ومع تلك الأعمال نجد ان أكثر المساهمات الأدبية التي أضافها ماتيسين إلى تاريخه الأدبي تأسيسه لمجلة " باريس ريفيو " مع هارولد لام عام 1950 والتي جاءت فكرتها لدى إقامته في باريس والتي نجحت باستقطاب أهم الأسماء الأدبية آنذاك وعملت على إشاعة الخيال داخل القص القصير وتبنيه كواحد من الأجناس الأدبية الفاعلة لما بعد الحداثة ، إضافة إلى سلسلة المقابلات المتعمقة مع الكتاب والتي استمرت حتى وقتنا الحاضر ، غير أن الذي أصاب معجبيه بالإحباط اكتشافهم أن ماتيسين كان يعمل لحساب وكالة المخابرات المركزية وقد جاء ذلك متزامنا مع انطلاق مجلته حيث اعترف في حديث مع جورج بينج جورج قائلا :
- كنت بحاجة إلى غطاء لنشاطاتي التي اعتبرها البعض ممن على شاكلة عائلتي بالشائنة .
أما جورج بليمبتون الصحفي والكاتب والمحرر المشارك في المجلة فقد صرح وقتها أنه أصيب بالصدمة لدى علمه بهذا الخبر وغضب غضبا شديدا تاركا عمله في المجلة ولم يعد إليها حتى وفاته عام 2003 ، ماتيسين وبعد كل هذا الجفاء الذي لاقاه من معارفه وأصدقائه غادر الوكالة عام 1953 ليستقر في لونغ آيلاند التي نشر وقتها ثلاثاً من رواياته حتى العام 1956 لينطلق بعدها صحبة كيس نومه وبندقيته جوالا في براري أمريكا التي جال معظمها أنتج خلالها أول كتاب له عام 1959 بعنوان " الحياة البرية في أمريكا " والذي أطلقت عليه وقتها مجلة " نيويوركر " لقب مؤرخ عالم الطبيعة الأمثل ، بعدها أصدر كتابا ثانيا وموسعا ذكر فيه الكثير من تفاصيل الحياة البرية لأمريكا الجنوبية وسكانها الأصليين وغينيا الجديدة وسيبيريا وشرق أفريقيا ،لافتا الانتباه إلى شواغلها البيئية أيضا .
بعد تسعة عشر عاما من كتابته لرحلاته التي وثقها بكتابين مهمين يفاجئ قراءه بكتابه " سنو ليوبارد " والذي أصبح الأكثر مبيعا في أمريكا ضمنه صفحات طويلة من سيرته الذاتية التي احتوت أيضا إعجابه بالطريقة التي يعيشها البوذيون في بحثهم عن الذات وسط هذا العالم المضطرب ، فأخذ الكثير عنهم وهو يتنقل في جبال الهيمالايا ما جعل النقاد يثنون على أسلوبه النثري الذي احتوى على كل تلك الصفحات ، هذا الأسلوب نراه يأخذ منحىً جديدا في طرحه هذه المرة حينما أصدر ماتيسين كتابين اعتبر فيهما الظلم الموجه تجاه الهنود الحمر وهم سكان أمريكا الأصليين أمرا غير مقبول ، فنراه يقف موقفا دفاعيا عنهم كحالة ليونارد بلتيير وهو عضو في حركة الهنود الأمريكيين الذي أدين بقتل اثنين من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي عام 1975 في الحجز بداكوتا الجنوبية ومنتقدا بذات الوقت الحكومة الاتحادية لمعاملتها غير الإنسانية له ، في هذه الأثناء تم رفع دعوى ضده بتهمة التشهير من قبل وكيل مكتب التحقيقات الفيدرالي أحيلت إلى حاكم ولاية ساوث داكوتا حيث ظلت تلك الدعوى تراوح في أدراجه مدة 6 سنوات حتى رفضت بينما بلتيير لايزال يقبع في سجنه ، وعلى الرغم من مكانته وشهرته القصصية اعتبر ماتيسين خير من تناول الخيال في ذلك الجنس من الأدب وأعني به القصة القصيرة والرواية وبفنية عالية ، خاصة في روايته " اللعب في حقول الرب " الصادرة عام 1965 حيث دارت حول الصراعات التي تواجه المبشرين في البرازيل والتي تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1991 ، ثم ألحقها بعد عشر سنوات برواية أخرى تحدث فيها عن صيادي السلاحف والتي أضاف إليها اللهجة العامية وتقع جميع أحداثها في البحر الكاريبي حيث صدرت عام 1975 مشتملة على ذاك الخيال المدهش نفسه الذي تفنن به في رواياته السابقة .
كانت لولادته في مدينة نيويورك عام 1927 في بيت يعمل والده مهندسا معماريا اشتهر بصلابته وحبه في المحافظة على البيئة والذي أصبح بعد ذلك زعيما لجمعية أودبون الوطنية ، أثرها في تمرده على عائلته في ما بعد ، فقد أدخل إحدى المدارس الخاصة التي عرفت بانضباطها العالي فكان شديد الاستياء من مناهجها وبعد إكماله لدراسته الثانوية نراه ينخرط في القوات البحرية نهاية الحرب العالمية الثانية على الرغم من معارضة أسرته التي كانت ترغب في إكماله لدراسته ، لكنه خالف كل ذلك وبعد تسريحه يعود لدراسته الجامعية التي أكملها عام 1950 متخرجا من جامعة ييل ليفر إلى باريس حيث دخل جامعة السوربون فيها لمدة عام وفي خلال ذلك يجند كضابط في وكالة المخابرات المركزية وبعد استقالته منها يعود لرحلاته التي كانت جزءا رئيسيا في ابتعاده وتمرده على العائلة والتي وصفها في الكثير من الكتب التي أصدرها .
تزوج ماتيسين ثلاث مرات عرف فيها الاستقرار العائلي مع زوجته الثالثة عام 1980 والتي رافقته حتى رحيله ، وعلى الرغم من سمعته الكبيرة ككاتب رحلات يعتبر نفسه روائيا في المقام الأول فمن خلال الشخصيات التي ابتكرها كان يضع قراءه في اتصال دائم مع العالم الخارجي وهذا ما نجده في روايته الأخيرة " في الجنة " التي يعكس فيها وبصورة مؤرقة ومحيرة الحياة في ظل الكوارث العديدة التي يشهدها البشر من ضمنها الحروب ، الرواية يقودنا فيها ماتيسين نحو السؤال الكبير الذي أرّقه : " لماذا نحن البشر نريد أن نخرّب العالم الذي نحياه ؟ وهل وصل الكره بيننا إلى أن نكون شياطين جميعا حتى نصنع كل هذا الخراب ؟
عن: صحيفة الواشنطن بوست