لولا طول الجلسة النقدية الأخيرة التي أقيمت على مسرح قاعة عتبة بن غزوان بالبصرة بمناسبة احتفال المدينة بالذكرى الخمسين لرحيل الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، بحضور عدد كبير من أدباء ومثقفي العراق، أقول لولا الجلسة السقيمة الأخيرة لما كنت مضطرا لتبيان ما يجب ان تكون عليه المؤتمرات والندوات والمهرجانات الثقافية، التي ما زالت تعاني من الارتجال والعفوية والترهل وسوء التنظيم وتكرار ما هو مكرور وممل وغير ذي جدوى.
ولكي أقف على الجلسة تلك وأقول: بأنه من غير المعقول، لا بل إنه من أعمال الجَلد الثقافي وجود ست ورقات نقدية لستة نقاد في جلسة ختامية أخيرة، تتخللها توزيع هدايا تقديرية ودروع للمشاركين وفيها فاصل للموسيقى وتعقبها جلسة شعرية وبيان ختامي، وكان من الممكن تمرير السأم والضجر الذي شل أدمغة الحاضرين وضيّع الوقت والجهد أيضا لو كانت الورقات النقدية قد اشتملت على ما يلامس ويجوهر الفعل الثقافي والحركة النقدية، بعد مضي خمسين سنة على رحيل رائد الحداثة الشعرية.
في تعقب أمين للأوراق النقدية التي تليت أثناء الجلسة نجد أن غالبية البحوث كانت عبارة عن مساجلات بين النقاد أنفسهم، واستعراض لمهارات لا تلامس جوهر الشعر وما يجب ان تكون عليه القصيدة، لا بل إنها لم تنجح في بلوغها قلوب جمهور الحاضرين، لأن بعضها كان تعالما معرفياً، فيما انشغل الكثير من النقاد بمن فيهم رئيس الجلسة بقضية العروض والأوزان والزحافات والعلل وتداخل البحور ووو التي أصبحت خارج اهتمام 90% من الشعراء العراقيين، إذا ما علمنا بأن مراجعة بسيطة للشعرية العربية وعلى مدى السنوات العشر الماضية تؤكد على أن معظم الشعر العربي المنشور والمطبوع إنما جاء على النمط الذي عرف بقصيدة النثر، التي تستبعد علم العروض في نظمها كما هو معروف لدى الجميع.
ولأن الشعر قضية تلامس القلب والوجدان قبل ملامستها الفكر، والشعر كما هو ومنذ قرون كتابةً وقراءةً وسماعا وتأملاً، قضية يقصدها المحبّون لهذا الضرب من بين الفنون الجميلة كافة، فقد كان الأجدر بحلقات النقد والدرس والبحث ان تكون مقبولة مستساغة، مأنوسة ومحببة لدى الحاضرين. لكني والله أشهد، لا أعرف سأماً وضجرا من الذي يتجرعه الجالسون على المقاعد، أشنعَ وأمرَّ من السأم والضجر الذي يصبه النقاد عليهم من خلال بحوثهم وآرائهم النقدية، ولعمري لم اخرج سعيداً، فرحاً يوما ما من قاعة نقدية، وعلى مدى عقود من وجودي على المقاعد تلك. لكني أكون أكثر سعادة، أكثر بهجة وسروراً وأنا أقرأ في كتب كبار النقاد، من الذي ترجمت أعمالهم، أمثال ريشاردز وسي بورا حتى بارت وياكوبسن وتدوروف، لا بل كنت أظن ان كتابات لكتاب وفلاسفة غربيين مثل فوكو وشتراوس ستكون نكداً وعذاباً عليّ، لكني وجدتها غير ذلك، بل هي الأكثر متعة وقبولاً عندي. ترى ما الذي يحدث في ثقافتنا، ولماذا لا يكون ناقدنا محبوباً ممتعاً وكتبنا النقدية محبوبة ممتعة لدينا؟
من غير المعقول أن يجتهد الناقد العراقي ويأخذ من وقتنا وأسماعنا الكثير والكثير وهو يحدثنا عن مهارات وفنون ومقدرة شاعر ما، في قضية لم تعد ذات معنى في شعرنا اليوم، ولنقل بصراحة: ما الفائدة التي يجنيها الشاعر الجديد من حديث البارحة الذي انفقه النقاد على قضية الوزن وعلم العروض، الذي تخطته الشعرية العربية، ألا يتعظ نقادنا من لحظة وقوفنا مصفقين مبتهجين بالشاعر الشاب مصطفى عبود، الطالب في كلية الهندسة بجامعة البصرة، الذي شدنا اليه عبر قصائد نثر لم تحلب من ضرع بقرة الخليل بن احمد الفراهيدي قطرة؟
ترى متى يتنبه نقادنا ومربو المهرجانات الثقافية إلى أن أعمالهم هذه لا تصب في صالح ثقافتنا ما لم تقم على فحص الذائقة العامة لدى الحاضرين. ما لم تقم على تعقب المنجز المهم والكبير للأجيال التي أعقبت تجربة السياب، وهل ننتظر موت شاعر مهم مثل حسين عبد اللطيف لنتحدث عنه وهو في قبره؟ ألم يئن الوقت لفحص تجارب أجيال ما بعد السياب؟ ولا أقول يوسف الصائغ، سعدي يوسف، سامي مهدي، سركون بولص، صلاح فائق، عبد الكريم كاصد، كاظم الحجاج ، زاهر الجيزاني، سلام كاظم، خزعل الماجدي، عبد الزهرة زكي ووووو. لكني أقول مع غيري : الشعر العراقي في واد والنقاد العراقيون في واد آخر.
النقدُ متهمٌ في مهرجان السياّب بالبصرة
[post-views]
نشر في: 19 إبريل, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...