اراد جورج ارويل ان يودع العالم بعيدا عن الناس، فاختار لنفسه مصحة في اطراف لندن ليلفظ فيها اخر أنفاسه، كان ذلك عام 1950، مات وحيدا بعد ان رسم لنا صورة قاتمة لعالم محزن كان فيه "الشقيق الأكبر" نموذجا يحكم العديد من بلدان العالم ، فيما يخضع سميث بطل الرواية لعملية غسيل دماغ: "حدق سميث في الوجه الضخم، لقد استغرق الأمر منه أربعين سنة حتى فهم معنى التجهم الذي يرسمه الأخ الكبير على وجهه وقال في نفسه" أي غشاوة قاسية لم يكن لها داع تلك التي رانت على فهمي، وعلام كان العناد والنأي من جانبي عن هذا الصدر الحنون. وانسالت دمعتان سخيتان على جانبي أنفه. وكان لسان حاله يقول: لكن لا بأس، لا بأس فقد انتهى النضال، وها قد انتصرت على نفسي وصرت أحب الأخ الكبير".
لم يكن اورويل يحاول ان يتنبأ، بل كان يرسم صورة العالم الحاضر حيث لاتزال بعض الشعوب خانعة خائفة يحكمها مستبد محميا بدبابات الجيش وطيرانه، ليصبح الشقيق الأكبر بطلا في قهر الشعوب، قادر علي أن يقرر بنفسه حكم شعبه، طالما قلبه ينبض، ليس مهماً أبداً أعداد المسجونين السياسيين، ولا الأحكام العرفية والطوارئ، وتزييف إرادة الناس، المهم الاستمرار في الجلوس على كرسي "السلطان".
لذلك لم يكن هناك ما يثير الدهشة في قيام بعض الجمهوريات الديمقراطية بترقية أبنائهم او أزواج بناتهم وأقاربهم ليمارسوا دور ظل "القائد الضرورة"، حيث لا يجد "الشقيق الاكبر" بأسا من ان يظهر اقاربه الى العلن معلنين للمواطن المسكين انهم أهل "الحل والربط" وبيدهم خزائن البلاد يوزعونها على من يشاؤون، ولم يرد في خطب "الشقيق الاكبر" ما يشير الى اهتمامه بالأوضاع المزرية التي تعيشها البلاد، ولكنه ينبه الناخب الى ان لا يصدق ان الديموقراطية هي عدم التجديد، الديموقراطية هي ان تجدد مرة واثنتين واكثر.
يتعجب ايتين دي ليواسيه في كتابه "العبودية المختارة" من سقوط البشر في اصفاد العبودية لبشر مثلهم، يأكل كما يأكلون، ويموت كما يموتون:"فلست ابتغي شيئا الا ان افهم كيف امكن لهذا العدد من الناس، ان يتحملوا طاغية واحد لا يملك من السلطان، الا ما اعطوه، ولا من القدرة على الاذى الا بقدر احتمالهم الاذى نفسه.
اليوم الناس تحلم بمسؤول قوّته في فهمه لمعنى الديموقراطية والتداول السلمي للسلطة، مسؤول عادل في حقوق معارضيه قبل حقوق اقاربه وحاشيته، يعرف أن الانتصار نصر للبلاد وليس هزيمة لشركائه السياسيين، ويدرك جيدا ان الأوطان ليست حَلَبة مصارعة، وإنما دار أمان واطمئنان.. ولا يعتقد ان حكم الأغلبية يعني الإمعان في الطغيان والصلف.. عندما انتصر الديمقراطيون في امريكا لم يطردوا الجمهوريون خارج البيت الأبيض، فالديمقراطية الحقة تقضي ان يكون رئيس الوزراء ضامنا لمصالح الجميع، حاميا لكراماتهم، مترفعا عن الثأر، كارهاً لشعار "أنا ولي الدم".
يدفع العراقيون اليوم ثمن غياب ساسة ومسؤولين يشيعون: القانون والحريات وضمان العيش الكريم للمواطن، احد عشر عاما وقبلها عقود من أجل لاشيء، سنوات من الأسى والخراب، وعقود تعمّد بدم الأبرياء، تتقدم الشعوب فيما نحن محاصرون بحاشية رئيس مجلس الوزراء يغرقوننا بأطنان من الشعارات والوعود، ويصرون على اضاعة أعمارنا في الجهل والتخلف، شعوب العالم لا تقبل أن تختار مسؤوليها إلا بعد أن تدقق في سيرهم الذاتية، فيما نحن نعتبر ذلك ترفا، فمطلوب من الناس أن تضحي من أجل المسؤول الذي عليها تحبه أكثر من وطنها، فيما المقربون مصرون على ترسيخ مبدا العطايا وتوزيع الهبات من المال العام.
يقول يوسا في روايته الشهيرة حفلة التيس: "يحاول الحاكم الفاشل ان يغطي على الخراب بالصياح".. مأساتنا اليوم ليست في فشل الحكومة، بل في عجز الناس عن التحكم بضبط حركة رئيس مجلس الوزراء الذي يصر على تذكيزنا في كل خطبه، بواحدة من روايات المرحوم جورج ارويل.
المالكي والمرحوم أرويل
[post-views]
نشر في: 19 إبريل, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 4
رمزي الحيدر
كلام رائع لكن مع الأسف الشديد أن شعبنا الغالبية فيه جاهل لا يفهم كتاباتك.
داخل السومري
صحيح غالبية هذا الشعب مثقلة بأعباء التخلف والجهل.والحقيقة المرة هي ان هذا الشعب اخرجه الامريكان من كابوس صدام المظلم والمتخلف ليجد نفسه تحت كابوس اكثر ظلاما وأكثر تخلفا من الاول.
Sami Mahmoud
اخي العزيز الشعب غارق في الجهل ولايهمه والكل يركض لتجهيز لقمة العيش لاطفاله والمرجعية ووزارة التربية تهدم المدارس وتشجع الناس للذهاب الى الملالي اي شعب هذا الذي يدين بالولاء للدين والطائفة بدلا من الوطن
ابو سجاد
خطابك هذا لمن توجهه الى الجماهير الغفيرة التي ركضت الى ولائم المرشحين في فنادق بغداد وامامهم في ساحة الفردوس متظاهرون بحت اصواتهم للمطالبة بالحقوق المسروقة وهم لايتعدى عددهم التسعين شخصا نحن نصرخ باعلى اصواتنا وهؤلاء ليس بيننا وبينهم سوى شارع لايتعدى العش