TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > فــــارزة: مسدسات السياسيين

فــــارزة: مسدسات السياسيين

نشر في: 21 نوفمبر, 2009: 07:33 م

وارد بدر السالمنستعين بالتاريخ عادة لنقترب من الواقع كثيراً. لا لأن الواقع يخلو من المثال والحكمة والعلامة الفاصلة في استشهاداتنا التي نتوخاها ، لكن التاريخ حاضنة معرفية كبيرة وسجل ضخم للدول والشعوب والأفراد الاستثنائيين في الحياة ، ممَن أسعدوا البشرية بعلومهم وإبداعاتهم ومَن أدخلوها بحروب وكوارث قضت على تطلعات الملايين من الناس هنا وهناك.
 وفي السياسة لنا من الأمثلة ما نشاء في علاقاتها المشتبكة والمتشابكة مع الحياة ، كما في نقيضها "الثقافة" التي أوجدت فرصاً ضخمة لأمل إنساني عارم اجتاح عواطف البشرية منذ الأزل. وهذان المرفقان؛ السياسة والثقافة ؛ هما الصوتان المتقاطعان دائماً في حياة الشعوب ، لاسيما الشعوب المثقلة بالسلطة القمعية ، أو الشعوب التي تتخذ قرارها بسلوك ديموقراطي جديد ، فهذه الأخيرة تقع في الإمتحان العسير ويقع سياسيوها في مأزق التجربة ، لاسيما إذا كان بعضهم قد أدركته مهنة السياسة وهو لا يدري! النقائض لا تجتمع في صحن واحد. ومن يجد زواجاً قسرياً بين الثقافة والسياسة فقد أوجده بناء على معطيات مرحلية كانت السياسة فيها تتملق الى الثقافة بوصفها الصوت الإنساني الأوحد الذي يتنافى مع مفهوم السياسة كونها ذات بُعدٍ مُعرّف على اعتبار أنها فن الممكن أو فن الكذب والخداع ! وهذه تعريفات ما تزال قائمة يتعاطاها السياسيون في كل مكان ، وليس السياسيون العراقيون ناشزين عن هذا التعريف بل أن بعضهم أتقنوا التعريف المذكور الى حد الذوبان والتماهي فيه! وليس جديداً أن الصوت الثقافي يتوارى لصالح السياسي ، فهذه مشكلة قائمة منذ وقت بعيد ولا مفر من الإقرار بها ، وربما كان وزير الدفاع الهتلري "غوبلز" هو أول مَن أشهر مسدسه بوجه المثقف في قولته الشهيرة (كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي) ويبدو أن المسدس الغوبلزي القديم ما يزال في غمده رغم مرور عقود طويلة عليه. ويبدو أنه لم يصدأ حتى اليوم. وثمة من الأدلّة والشواهد ما يُغني عن ذلك.وليس غريباً في ظل حالات الترويع والتخويف والترهيب أن يكون مسدس النازي غوبلز مشهراً بوجه الثقافة والمعرفة وإن إتخذ أشكالاً ومسمياتٍ مختلفة. فمسدس السياسة هو الأكثر مضاء في جسد الثقافة والمثقف العاري إلا من كلماته وأفكاره وحضوره الإنساني. قيل أن السياسة هي فن الممكن وقيل هي فن الكذب والمراوغة وما دخلت شيئا الا افسدته. وألصقت فيها أوصاف غير مستحبة كثيرة ؛ ولم يُشر أحد إلى أنها فن جمالي كبقية الفنون ، ولم تُحسب على ساحة الثقافة الإنسانية أبداً. فقصة السياسة بكل فصولها لا تحتاج الى تعليق دائم، والشواهد السياسية مختلفة وكثيرة ، وأسماء السياسيين الذين برعوا في هذا (الفن) أكثر من أن نحصيهم. وربما نجد أغلب سياسيي العالم من الذين يتقاعدون وتطويهم الصفحات الإنتخابية الجديدة يعترفون عادة بأن السياسة هي نوع من أنواع الديبلوماسية والكذب، عندما يوردون شواهدهم التاريخية في أعمارهم السياسية الطويلة. وسنجد غوبلز ثانية هو أفضل من يجسد هذا الفن بمقولته الشهيرة (اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس في النهاية) أما في حياتنا السياسية العربية فليس هناك أفضل من "كذبة"جمال عبد الناصر السياسية الشهيرة (سنلقي بإسرائيل في البحر) وهكذا فإن الكذب هو"فن" من فنون السياسة القديمة والمعاصرة ، وهو يفترق كلياً مع "فن" الثقافة بوصفها حالة جمالية بكل أشكالها وروافدها الإنسانية العظيمة. لذا دائماً نجد أن السياسي لا يلتقي مع الثقافي وهذا الأخير فضّل الإنسحاب عن المعترك السياسي معتقداً بكونه الأسمى وهو الضمير الجمعي الذي تراقبه المجتمعات. وربما حدث هذا الطلاق بين الاثنين منذ مسدس غوبلز الذي كانت تخيفه "مفردة" المثقف (وهو الأعزل) بمفارقة تحمل أبعاداً نفسية معروفة أدركتها الشعوب بمرور الأزمان فانتمت الى الحضارة قبل أن تنتمي الى مسدسات الساسة، مدركة أن الحضارات الإنسانية ما قامت إلا على أكتاف المثقفين منذ عصر الكهوف البدائي وحتى ثورة الإتصالات الرقمية الحالية ، أما الساسة بمختلف تلاوينهم الفكرية وأصباغهم الرسمية وغير الرسمية ، فلا يتركون غير الرماد بين شعوبهم.. فمن يحمل مسدس غوبلز ويلوّح بعصاه على الصوت الثقافي يقع في منطقة التجريم التي سيعاقبها عليه الشعب عندما تحين فرصته العظيمة..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram