TOP

جريدة المدى > عام > الكتابة الشعرية بوصفها كتابة تصويرية

الكتابة الشعرية بوصفها كتابة تصويرية

نشر في: 21 إبريل, 2014: 09:01 م

يفتتح  الشاعر صفاء ذياب كتابته الشعرية بمقترح تصويري لمواجهة فوبيا الحرب، تلك التي أعادته الى اللغة/الصورة، بوصفها نسقا تعبيريا، مثلما سحبته من اطمئنان البيت الى وحشة الغياب/المنفى، ومن المكان الواقعي الى المكان المعادي، وبما  اعطى تلك اللغ

يفتتح  الشاعر صفاء ذياب كتابته الشعرية بمقترح تصويري لمواجهة فوبيا الحرب، تلك التي أعادته الى اللغة/الصورة، بوصفها نسقا تعبيريا، مثلما سحبته من اطمئنان البيت الى وحشة الغياب/المنفى، ومن المكان الواقعي الى المكان المعادي، وبما  اعطى تلك اللغة طاقة تصويرية استثنائية تقوم على فعالية المفارقة الاستعارية لتبرير هذه المواجهة، ولاعطائها حساسية ضدية، تلك التي بدت فيها استعاراتها  وكأنها المعادل السيميائي للحرب..
في كتابه الشعري(ثلج ابيض بضفيرة سوداء) الصادر عن الدار  العربية للعلوم ناشرون/ بيروت يصطنع الشاعر حضورا رائيا، تكتمل ادواته وتتحرك باتجاه مقاربة تأويل ماتصنعه الحرب، تلك الحرب المستعادة، بكل ماتتمثله من صور ومفارقات لها خصوصية في الدلالة وفي الإثارة، والتي اقترح لها الشاعر نوعا من السينوغرافيا الشعرية، التي تحقق الاطار التصويري للجملة الشعرية،  واستكناه ما يمكن ان تحمله التفاصيل من أفعال، وما تثيره من رؤى، فضلا عن ما تضخه من شحنات تستنفر لغة الشاعر البصرية، وما تنعكس به على سيمياء تلك الجملة الشعرية، وعلى مركب بنياتها ووظائفها، وعلى سرديتها التصويرية المتوالية..
عنونة الكتاب الشعري بدلالتها اللونية والبصرية توحي بالمفارقة،  اذ تنطوي على حركة تتبدى من خلال التشكيل في صورة غلاف الكتاب الشعري، والتي تتناغم فيها البنيات اللونية مع البنية النفسية، تلك التي تتحول الى استقطاب بصري، يتوزع على مساحة الغلاف والعنوان، والى باعث لاستغوار رمزي للحمولة الاستعارية المثكفة للحرب، ولماتستدعيه الرؤية وهي ترصد خدوش تلك الحرب، بوصفها محنة وجودية، مثلما تنطوي على  موحيات تتجاوز التلقي الذهني الى التلقي البصري، وبما يجعل اغلب القصائد أمام مشغل استعاري يقوم على توليدات تلك المفارقة...
هذه الحرب تتأنّق كل يوم/ فمنذ ثلاثين عاما كانت ترتدي الأخضر في الشوارع/ توزع الأشجار على الدروب/ وتصبغ البنايات بورود يابسة../ وحين تنام قليلا في الظهيرة/ توزع الأجساد..
هذه التشكيلة الصورية بحمولتها السيميائية تدفع باتجاه التأمل، اذ هي موجّه قرائي لكشف اثر الحروب وخدوشها، واذ هي كذلك اشتغال اشاري يقوم على فكرة تحقق  الطاقة البصرية، تلك التي تدفع باتجاه الكشف عن التلازمات الدلالية  بين الحرب والجسد، اوبين الابيض والاسود، بين اليباس والاخضرار. هذه التلازمات هي محور رؤيا الشاعر، وهي مشغله التعبيري  لتفجير تلك الرؤيا، ولاثراء  فكرة التحقق الشعري  في المبنى النثري لقصائد الكتاب، فالكفاءة الشعرية تكمن في حيوية هذا التدفق، وفي تمكن الشاعر من ان يستوعب مغامرة الشكل، بوصفها مغامرة للمعنى ايضا، وفي ان يعطي للمبنى النثري مقابلا شعريا/صوريا  يقوم  على كثافة الجملة، وعلى حيوية ماينبثق من الصورة، وعلى انضاج الفعل الاستعاري لاستكمال عناصر هذا التقابل، وبما يجعل اغلب قصائد الكتاب تتشكل دونما تقاطع، لأنها مرتبطة برؤيا الشاعر التي تستعيد الوجود عبر التفاصيل، وتستعيد الحرب عبر الخدوش، وتستعيد المعنى عبر الاستعارة المفارقة. وهذا الانغمار الشعري يكرس(شخصية القصيدة) عبر شعرنة التفاصيل، التي تمثل اشباعا استعاريا من جانب، وتعويضا للخواء الذي يعيشه الشاعر من جانب اخر، وللوحدة التي تنتهكه، وللتقاطعات التي بدت وكأنها نقائض لإبراز الكتابة التصويرية بوصفها جوهر الطاقة الشعرية..
ابق هنا/ في هذا البيت الذي لم تزره الشمس/ في هذه الحجرة الجامة من الصمت
في هذا السرير الذي لم تفارقه يداك/ في هذا الشرشف المبتل من الخوف/ في هذه الوسادة المرتعشة كقاتل/ في هذا القميص الذي لايشبه قميص يوسف/ في هذا/ في/ ف...
تحقق فعل المفارقة، هو تحقق نفسي اولا، ورغم كل نقائضه الاّ انه يوحي من جانب فني بنزوع الشاعرلإسباغ نوع من البلاغة التصويرية، تلك التي تتداخل وتتفاعل، وتوسع من دائرة التشظي الذي قد يكشف عن نسقية مضمرة لذات الشاعر المخذولة، والتي تتلمس في اللغة بوصفها صورة او حتى إيقاع نفسي ما يجعلها اكثر قدرة على التماهي مع  التحقق النفسي، وبما يفضي الى المزيد من التوليدات الشعرية، والمزيد من الصور، تلك التي اندفعت في بعض المقاطع لتكون الأشبه بالمونولوج المزحوم بالانتقالات ذات الايحاء التشكيلي الرمزي والدلالي..
في الطريق المرسوم كشاربي رجل ميت/ يهطل كما ريشة ترسم غابات نخيل على شواطئ دجلة/ هائما كالملائكة/ يهطل كريش بجعة تخلع ثوبها..
او بالانتقالات ذات الايحاء الدرامي الداخلي المسكون بفكرتي الصراع والتحول، والذي يكشف عن استيهامات الشاعر في نظرته للعالم، وللتاريخ، التاريخ الشخصي جدا..
لن اضمن نفسي بعد دقيقتين/ أتغير بالثانية/ والعالم ايضا/ والتاريخ تغيّره هفوة من رجل او امرأة تجلس على حافة في/ مكان ما/ وهي ترمي قشور الكرز خارج الكون..
البنية التصويرية في قصائد صفاء ذياب تتجاوز ذاتها احيانا للتخلص من هذا الاكتفاء، لتكون باعثة الى بنية صوتية، اقصد الصوت الداخلي، وهذا التبادل بين البنيتين يمثل المناخ العام للكتاب الشعري، اذ هو مسكون بالتحفّز والاستنفار، وبالاشارات، بما فيها الاشارات التي توحي بها تقطيعات الجملة او الكلمة، لانها تعكس مزاج الشاعر، وهوسه بالحياة، لكنها الحياة المستعادة عبر رؤيا محشوة بالنقائض، وعبر قصدية يوحي بها الشاعر لتأكيد مهارته التصويرية، تلك التي تقوم على التقاط المهمل والهامشي في حياته وفي مهجره وفي يومياته، لكنها ايضا النابضة بطاقة تعبيرية عميقة بدءا من عتبتي العنوان والغلاف، وكذلك عبر العنوانين الثانوية التي تلعب وظيفة اسنادية لتكريس فعل المفارقة، وانتهاء بالفاعل الدلالي الذي تثيره الكثير من القصائد والذي يعني تحقق وعي الشاعر في النظر الى الوجود/ الامكنة والوجود/الاستعارات والوجود/ المعنى..
يأخذنا صفاء ذياب عبر 39 قصيدة قصيرة ضمها هذا الكتاب الشعري  الى فضاء من البوح، ومن الاستعادة والاعتراف، ومن الحساسية الشخصية إزاء تجربة المهجر، وإزاء خواء الانسان وهو يكتشف وحدته الفاجعة ازاء العالم، والذي لايملك ازاءها الاّ ان يستعيد العالم  على طريقة الظاهراتيين الى وعيه، لكنه الوعي المأزوم، والذي يرهن مايراه الى مرجعيات تجربته الشعرية والبصرية، والى رؤيته التي تسند ماتكشفه الى فاعله السيميائي ذي الحمولات النفسية، والى فاعله الاستعاري  بوصفه  رهانا بلاغيا على مقاربة اشتغالات موسعه  في  القصائد على مستوى الاشتغالات الصورية وعلى مستوى التأويل الذي يسهم  في توسيع تبديات الجملة الشعرية، الجملة التي تكتفي احيانا بذاتها، وبتشكلاتها الداخلية، لانها الجملة/المتن/ الصورة، والجملة التي تختزن ماهو مستور، وماهو محتجب..
وهذا بطبيعة التوصيف اغني  كثيرا المشغل النثري في قصائد صفاء ذياب، واستدعى القارئ  لإقامة صلة لذة وتواصل وتتبع معها، ليس لانها جملة تدفع  الى مايحفز على الاشباع، بل لانها جملة باعثة على التأويل والتوتير، مثلما هي مسكونة بالكثير من الايهام بالحياة او البحث عنها  عبر ماتحيله تلك الجملة الشعرية الى فكرة الحضور والمعنى والى سردية التفاصيل واليوميات..وهذه السردية الشعرية هي تمثّل  لاستعادة هذه الوظيفة عبر تمثل مايجاور الشعر الخالص الى تقانات لغة التصوير، وتقانات البلاغة والتشكيل وعين الكاميرا، وهي مكونات وعلائق تصنع  لنا  مايمكن  تسميته  بالمنطقة الشعرية التوليدية في قصيدة النثر...
يقال انني تهت ذات زمان في غابة من ثلج وأرز/ ثم انتبهت على حافة تميل على ثقب، ربما كان سرّة الأرض،/ فمتّ./ وفي ذات من زمان ايضا./ طفت روحي على رقم لم تدنس/ ولم تهرم بعد،/ أكلتني حينها حروف من ذهب واستبرق وزمرد ونعاس،/ وبشيء من الرعشة/ مررت بأصابعك الذهب،/ فكانت الحياة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القوانين الجدلية على جدول أعمال البرلمان يوم غد الثلاثاء

هل أخطأ البرلمان بعدم حل نفسه مبكراً؟

العمود الثامن: لجنة المرأة تحارب النساء

62 حالة انتحار في ديالى خلال 2024 بسبب "الربا"

أزمة جفاف الأهوار.. الأمم المتحدة تؤكد دعمها و«الموارد» تتحدث عن برامج لاستدامة تدفق المياه

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

مقالات ذات صلة

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو
عام

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو

علي بدرفي مدينة تتلألأ أنوارها كما لو أنها ترفض النوم، وفي زمن حيث كانت النجومية فيها تعني الخلود، ولدت واحدة من أغرب وأعنف قصص الحب التي عرفتها هوليوود. هناك، في المكاتب الفاخرة واستوديوهات السينما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram