لكثرة البرابرة في زماننا هذا, اضطررت إلى الاستفادة من عنوان قصيدة : كفافي/ في انتظار البرابرة/ مع تحريف طفيف وواضح القصد استوقفني عند الناصية مساء, وقال لي وعيناه جاحظتان والدهشة تعلو محياه : إلى أين تمضي في هذا الليل البهيم؟ كدت انفجر بضحكتي المع
لكثرة البرابرة في زماننا هذا, اضطررت إلى الاستفادة من عنوان قصيدة : كفافي/ في انتظار البرابرة/ مع تحريف طفيف وواضح القصد
استوقفني عند الناصية مساء, وقال لي وعيناه جاحظتان والدهشة تعلو محياه :
إلى أين تمضي في هذا الليل البهيم؟
كدت انفجر بضحكتي المعروفة لديه لكلمة الليل البهيم :
إلى البيت , لقد أنهيت حراستي وغادرت المحطة !!
ضحك وعيناه ما تزالان تنظران إليّ نظرة عجب واستفسار عن الذي يجري من حوله وهو لا يعرف لماذا يصر شخص مثلي على العناد والمطاولة مع حفنة من قطاع الطرق واللصوص وأشباح الليل , وقال لي: ألا تدري ما الذي يدور من حولنا ؟ هل صحيح أننا نغض الطرف عما يفعله الجناة بأهلنا صاغرين على امل ان نقتص منهم يوما ؟ هل هذا صحيح بالله عليك ؟ أين ذهب المال وأين اختفى الحلال ؟ ما عدت أطيق للأمر صبرا لا ورب الكعبة , ألم يكن من بيننا أبو ذر والمقداد وابن الأشتر ؟ .. تركته يفرغ ما في جعبته من كلام وأخبار بعضها يحف به الصدق كله وبعضه الآخر لا ادري كيف يمكنني الوثوق من حقيقته , لكني اتبعت ما يتبعه الحكماء من القوم , في انهم لا يشغلون انفسهم بحواشي الكلام إنما يستمعون إلى وجيب قلوبهم , أردت أن أقول له لماذا أنت خائف عليَ ؟ هل تعرف ما يدور في الجوار ولا تريد البوح به إليّ بالصراحة المفترضة بصديق ان يصارح بها صاحبه ؟
قال لي بصوت لم يخل من نبرة التوجس والحذر من القادم من الأيام:
ألا تعلم أن البرابرة قادمون ؟
هذا شأنهم أليس البرابرة جزء من الحل ؟
لوح ذراعه في الفضاء وتدفقت قريحته بالقول :
أقول لك البرابرة على الأبواب , تحدثني عن الحل ! كيف يكونون حلا لنا ؟
الرجل الضرير قال هذا ..
لا يمكن العودة إلى البيت ياصاحبي.
تلك شيمتك تخشى الغرباء في كل حين ..
إنهم يتربصون بالمارة من الناس!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كنت أقطع الطريق إلى البيت وحدي تلك الساعة التي انقطع فيها تيار النور وأصبح من الصعب عليَ رؤية الموجودات من حولي , كانت الصعوبة البالغة بالنسبة لي ليس في كثرة العثرات في الدرب إنما بازدياد عدد الأشباح من حولي مما جعلني أشك في أن خطواتي ما عادت محل ثقة في تنقلاتي , وإذا لم يستطع المرء الاعتماد على وجيب قلبه كيف يثق بأقدامه التي قد تسوقه إلى المحنة أو التهلكه كما يردد صاحبي , وأنا لست من تغويه المصائب والخطوب أبدا, إنما أميل إلى أن أكون على علم بما يحيط بنا , وكنت اعرف أن الفقراء من أهالينا يزدادون فقرا والأغنياء يغطسون بالدمسق وبالحرير ولا أحد ينقذنا من مستنقع الفاقة والعوز أبدا !
توقفتُ هناك في مدخل الحي وعلى مسافة بيّنةً من بيتنا, كم ينبغي عليّ السير حتى اصل إلى هناك ؟ هل أنام في العراء ؟هل أتأبط ذراعي وأغفو ساعة من الوقت ؟ وكيف أحمي نفسي من اللصوص المردة و شذاذي الآفاق , أولئك الذين لم يبقوا لنا من شيء , كان أبي المقعد بعد تقاعده المجحف في السنوات الماضية , يحذرني من الغفلة أو التقاعس عن مرماي مهما كان بعيدا عن متناول يدي ,صحيح لم يكن أبي قد تعلم القراءة والكتابة في مدارس الحكومة لكنه ختم كل آيات الذكر الحكيم عن ظهر غيب ومنها تعلم المزيد من الحكمة والعبرة واخذ دروس الصبر والسلوان على ما يصادفنا في حياتنا اليومية , لم أكن أخالفه أو أرفض له أي طلب إلا ساعة عودتي من عملي ،فهي دائما تكون في الليل وفي ظلامه الدامس وكانت ساعة تأخري في عملي الوحيدة من بين ساعات يومي تقض مضجعه , كان يعجب على سكوتي إزاء هذه الفوضى التي تلم بي وبحياتي كلما تأخرت في القدوم إلى المنزل بعد انقضاء ساعات عملى في محطة القطار . كنت أنا الذي يلوّح بالمصباح الضوئي للقطار القادم وعلى ضوء ذلك الفانوس كان القطار يزحف بثقة نحو محطته مطمئنا وعلى أتم الوجوه وإذ ارحب به اعني بالزائر الجديد يكون الراكبون قد هبطوا مستبشرين بوصولهم إلى أهاليهم ومنازلهم وأصدقائهم اذا ما عرفوا بوصول القطار إلى المحطة الأخيرة , كان هذا ديدني بل قل عملي الذي أتقاضى عنه مرتبي ولا فضل لي على احد ولا من له سابقة عليّ , الجميع هنا في محطة القطار يعرف ماذا ينبغي عليه أن يفعل , وكان حشد من الناس ينادونني يا مرشد القطار وآخرون ينادونني بصاحب الفانوس وأنا عارف ان لكل منا تسمياته الخاصة التي جبلت عليها نفسه ولا يجد من غضاضة في تركها أو التخلي عنها , وكان من الصعب عليّ التخلي عن عاداتي التي أخذت عليها منذ كنت صبيا غرا أو فتىً يافعا , وكنت احب السير في الليل وحيدا حتى لو كان الظلام الكثيف يغطي الكون كله ذلك لا يعني عندي أي شيء ولا يشكل أي خطورة على سلامة تفكيري وما تنتابني من خواطر ملتهبة ,.. ذلك الحي وتلك الشوارع والطرقات والدرابين كلها أعرفها معرفتي ليدي هذه , لا شيء يحول بيني وبينها ليلا أم نهارا , وكان أبي يقول لي : الصمود بوجه العواصف يتطلب لحظة واحدة يجب ان نحسن اقتناصها في اقل من هنيهة بل قل في شاردة عابرة من الزمن لا يمكن لنا أن نلامسها ملامسة اليد ورؤية العين تلك هي ضربة الحظ يا ولدي , وكنت أعجب لكلامه وأنبهر لتناسق أفكاره وانتظامها في خياله بحيث لا يدع لي فرصة تأمل كلماته بل اغرق في فيضها وتناسقها واسأل نفسي : ـــ أين تعلم هذا كله وهو الرجل الذي لم يصغ إلى صوت معلم في مدرسة إنما تعلم الحكمة من عمله اليومي ؟
لم يعد أمامي من حيص بيص للهرب فقد أحاط بي حشد كبير من الأشباح في ظلام الليل المقفر , والغريب حدث ما كنت أتوقعه في ليل الوحشة ذاك , توقفت قدماي عن السير في الدروب التي أعرفها تماما , وتلفتُ يمنةً ويسرة كانوا يتدفقون من كل زاوية ومنعطف , جاءوا يحملون الهراوات والعصيّ والبلطات , كانوا على مسافة مني , أدركت أني سائر إلى حتفي لا مناص , هل أقاتلهم ؟ ولكن كيف وما هي الوسيله التي سأواجههم بها ؟
كان صوت واحد قد ارتفع في الأنحاء .. كلب واحد نبح بعده جاء عدد من الكلاب يتراكضون وقد تشمموا الرائحة , رائحة الغنيمة رائحة لا يمكن لمن تملأ انفه الرائحة إلا ويتحرك نحوها , كان عدد الكلاب يزداد كلما تراجع عدد الأشباح من الرجال بعصيّهم وأسلحتهم اليدويه الجارحة والراضة , تجمع حولي عدد من الكلاب يتشمم ثيابي و يرنو إلي , لم أتحرك ولم أطلق لساقي العنان بل تسمرت في مكاني لحين تأذن لي الكلاب بالسير نحو المنزل , كنت قد تبينت بعض الوجوه التي سبق لي أن شاهدتها في النهار عند مدخل السوق وفي احد المقاهي , ولكن لم استطع التيقن بصورة قاطعه من حقيقتهم , ومن أشخاصهم مع اني كدت اجزم انهم هم انفسهم. قد فكرت بهم وانا أتابع تراجعهم المذعور لمّا شاهدوا عن بعد كيف اصطفت الكلاب إلى جانبي كأنها تنتظر مني الإشارة بالهجوم على الأشباح , صحت بصوت قوي الشكيمة لما رأيت الكلاب تحيط بي لتحرسني من لفيف القتلة:ـــــ من هناك ؟
جاءني الصوت قويا وساخرا : ـــــ نحن البرابرة قادمون ,ألا تعرفنا، أم انك تتغاضى عن وجودنا , من أين لك بهذه الحشود من الكلاب .. حتما ستكون لنا معك جولة قادمه .
كانت الكلاب قد نبحت مرة أخرى , وبعضها زمجر بصوت مخيف فعلا.
تسألت : ألا ترى أنك أخطأت الهدف؟
ــــ قل لي ياهذا , إلى متى ستظل تحتمي بكلاب الحراسة ؟
خطوتُ نحو البيت خطوات وئيدة خشية أن تظن بي كلاب الحراسة أني أنوي القيام بهجوم ضدها , لم أتبين خطواتي أنا وقد تركت امر السير البطيء إلى قدميّ تسوقانني على مهل وقد أدركت أني سأصل إلى داري لا محال مادام حرّاسي لا ينامون الليل أبدا..