كثيرة هي المؤلفات التي تناولت مدينة الحلة، والتي تحدثت عن مكانتها التأريخية والعلمية والفقهية والأدبية والسياسية منذ أن سكنها سيف الدولة المزيدي صدقة بن منصور الأسدي في شهر محرم سنة 495 هـ / 1101 م ولغاية اليوم. ومما يحسب للحلة في سفر التاريخ هو أنها
كثيرة هي المؤلفات التي تناولت مدينة الحلة، والتي تحدثت عن مكانتها التأريخية والعلمية والفقهية والأدبية والسياسية منذ أن سكنها سيف الدولة المزيدي صدقة بن منصور الأسدي في شهر محرم سنة 495 هـ / 1101 م ولغاية اليوم. ومما يحسب للحلة في سفر التاريخ هو أنها احتضنت الحوزة العلمية قرابة أربعة قرون في عمر أصول الفقه الشيعي. وقد تناول هذه الحركة العلمية الأستاذ الدكتور حسن الحكيم في مؤلفه (مدرسة الحلة العلمية)، وقد حفّز هذا المؤلف يراع الدكتور عبد الرضا عوض ليخوض في غمار هذه القضية ليطلع علينا بمؤلف مهم جداً، كان عبارة عن أطروحة دكتوراه حملت عنوان (الحوزة العلمية في الحلة، نشأتها وانكماشها، الأسباب والنتائج) ليجلي كثيراً من غبار النسيان عن هذا التاريخ الأهم في عمر مدينة الحلة، بعد سقوط الدولة العباسية.
ولو أردنا أن نستعرض عناوين بعض ما نعرف عما كتب عن هذه المدينة المعطاء، فإننا سنثقل كاهل هذا الموضوع بالكثير، وسنتجاوز على مساحة كبيرة لهذه السطور المخصصة لقراءة (الحلة عاصمة السخرية العراقية وذكرى الساخرين) لمؤلفه نوفل الجنابي، والصادر عن دار المدى لعام 2014م بـ (438) صفحة من القطع المتوسط، وللأمانة أقول: إنّ في هذا الكتاب القليل من عنديات الجنابي، والتي اقتضتها ضرورة السخرية المرة التي اعتمدها في هذا المؤلف، كما أنه قد وقع تحت ضغط مهيمناته الفكرية وهو يسطر حروف هذا الكتاب. إذ من السهولة بمكان أن يتيقن القارئ أنّ الجنابي شيوعي خاصةً وهو ينتصر لرجال هذا التيار اليساري، ويكيل الشتائم للبعث الفاشي، ولصدّام، بمناسبة وبدونها، خاصةً إذا ما عرفنا أنّ رجال هذا التيار، هم النخبة المثقفة في الحلة.
ومما يحسب لهذا الكاتب هو جرأته المتناهية وهو يسمي الأشياء بأسمائها بلا لف أو دوران أو خوف من هذه الشخصية الكاريكاتيرية، أو البعثية!! كما أنه أنصف كل من كتب عنه سواء بالمدح أم بالقدح. وفوق هذا و ذاك فقد كتب بحب عن هذه المدينة بمختلف طبقاتها الاجتماعية غير مبال بما سيقال عن هذه الكتابة ما دامت عربات سطوره لن تخرج عن سكة الحقيقة.
نعم.. استخدم نوفل الجنابي كثيراً من المفردات السوقية والتي بعضها يخدش الحياء بقوة إلا أن إصراره على تصوير الحلة بمختلف طبقاتها (خاصةً تلك المسحوقة، أو التي تعيش على هامش الحياة) قد اضطره لانتهاج هذا الأسلوب في الكتابة أو إيراد تلك المفردات على عواهنها. قد يقول قائل: لماذا هذه الموضوعات بالذات، ولماذا لا يكتب عن الوجه المشرق للحلة؟ وللإجابة عن هذا نقول: إنّ الجنابي غير ملزم بالكتابة عن تاريخ وآداب وفنون الحلة بالطريقة التي تحلو لهذا الطرف أو ذاك. ثم أن الحلة بما هي عليه بعصورها المختلفة قد كُتب عنها الشيء الكثير، إلا هذا الجانب الذي تناوله الجنابي بصدق، فقد بقي عبارة عن أحاديث يتناقلها كثير من الألسن، وهي في طريقها إلى النسيان والضياع، وحسناً فعل الجنابي وهو يشمّر عن ساعد قلم مشهود له بالكفاءة الأدبية، ليكتب الوجه الآخر للحلة. أعتقد جازماً أن هذا الكتاب سيدفع بكتَاب بعض المحافظات للخوض في التفاصيل اليومية لمدنهم يوم كانت تحكم بالحديد والنار من قبل زمرة البعث. فالكتاب في معظم صفحاته وسطوره كوميديا سوداء تمطر الدم قبل الدموع، ضحك كالبكاء، خاصةً وأن الكتاب يؤرخ للمرحلة التي رزح فيها العراق تحت نير الاستعمار البعثي الصدامي، فهو لم يترك شاردة أو واردة إلا وتوقف عندها بذاكرة متوقدة لم يصل إليها داء النسيان بعد، مع أنه في الأيام الأخيرة لعقده الخامس.
أحد الأصدقاء من الذين لم يعجبهم هذا الكتاب اعترض على موضوعاته بشدة، وعلى استخدام الجنابي الأسماء الحقيقية لأبطال مؤلفه، ولقد شاركت هذا الصديق الرأي قبل أن أطلع على الكتاب بعد أن أخذتني غيرتي على مدينتي، ولكن بعد قراءته وجدت أن الموضوعات لم تسمّ الشخصيات بأسمائها ولاسيما أن الكتاب ليس برواية أو قصة لا تساءل بعدها: ما الذي سنسمي الشاعر موفق محمد في الفصل الذي يتحدث فيه المؤلف عن هذا الشاعر؟ والأمر ينطبق كذلك على الشاعر محمد محمد علي القصاب. لذلك اعتقد جازماً أن البعثيين هم أول وآخر من سيوجه سهام النقد لهذا الكتاب، فهو يحط من قدرهم (خاصةً الثقافي) في معظم فصوله، إن لم نقل جميعها، وهم الخاسر الأكبر بإصدار هذا المؤلف.
و.. كثيرة هي الموضوعات التي تناولها الجنابي في هذا الكتاب، إذ يربو عددها على (33) موضوعا، والكثير منها بحاجة إلى كاتب سيناريو لتصبح أفلاماً روائية في غاية الروعة، كموضوع الشاعر موفق محمد، هذا العلامة الحلية الفارقة إبداعاً وحزناً، فهو الآخر (قد كان خسر ولده عدي في مقابر البعث الجماعية)، أو موضوع الشاعر محمد علي القصاب، الشاعر الشعبي الأشهر في تاريخ القصيدة الغنائية في مدينة الحلة، بعد أن صارت قصائده تغنى من قبل المطرب سعدي الحلي، فحياته زاخرة بالإبداع والهموم والأحزان، والسخرية التي صار ينفس بها عن نفسه والتي صارت ماركة مسجلة باسمه في الوسط الشعري والاجتماعي في مدينة الحلة. أو موضوع هاشم قدوري، المحافظ البعثي، والذي حوله الجنابي وأهل الحلة يوم كان محافظاً إلى مسخرة أو (مسلسل يومي يتداولونه في المقاهي بالصوت الهامس، الذي تعقبه الضحكات العالية، والذي لا يعرف أحد مدى صحة أحداثها)، كما يقول المؤلف. كما أن موضوع محلة الأكراد يصلح لأن يكون فيلماً كبيراً فيما لو توفرت له قدرات هوليوودية لإنتاجه وإخراجه، ففيه من كثير من السخرية المرة والحزن والألم، بعد أن أسهب الجنابي في سرد كثير من حياة بعض رجال هذا الحي، مروراً بموضوعته السياسية والتي هي أثيرة إلى نفسه، ما دام الحديث يتناول تسلط البعث الصدامي على رقاب العراقيين، كما أشار إلى اتفاقية الجزائر التي أبرمت بين شاه إيران والرئيس العراقي صدام حسين (نعم.. كان نائباً بالمنصب وبمسؤوليات رئيس جمهورية، هذا ما ذكره نوفل الجنابي أيضاً) وتأثيرها الفاعل على رجال المقاومة الكردية، وعملية التهجير القسري لأكراد كركوك سنة 1977 م وتوطينهم في محافظات الوسط والجنوب، وإعدام مجموعة من الكفاءات العلمية الكردية في محافظة بابل – ناحية جبلة، والذين لم يعثر عليهم لغاية اليوم.
و.. إضافة إلى الشخصيات الحلية والتي اكتسبت شهرتها لكثير من الأسباب، فقد توقف الكاتب عند بعض الأسماء العربية والأجنبية الوافدة إلى مدينة الحلة، كالفدائي الفلسطيني الذي جاء للسكن في مدينة الحلة، بعد أن تعرف هذا الفدائي على بعض الفدائيين من أهل الحلة، يوم كانت فلسطين الشاغل الأكبر للعرب (قبل أن يشغلوا بدعم القاعدة وداعش في العراق لقتل الشيعة) على أثر طرد الفدائيين من الأردن في سبعينيات القرن الماضي، ورجال شركة (سكابانيوس) اليونانية، الذين حرص رجالها على صيد الخنازير جنوب مدينة الحلة، أو الهنود الذين استوطنوا الحلة لأكثر من عقد لبناء جسر سعد (الهنود).
كما كان للكاتب وقفة مع أشهر مجانين الحلة، واختصاص كل واحد منهم بموضوع معين، فهناك مجنون مختص بعبد الكريم قاسم، بعد ان فقد هذا الرجل عقله بعد إعدام المرحوم عبد الكريم قاسم، وهناك من هو مختص بالتاريخ الإسلامي، وفي شأن هذا المجنون يورد الكاتب طرائف مضحكة، إلا أن ما يؤخذ على تلك الطرائف هو أن في بعضها إساءة للذات الإلهية والنبوية.
وهناك إساءات أخرى وردت على ألسن بعض رجال هذا المؤلف لم أجد ضرورة أو مسوغاً لإيرادها في بعض الموضوعات سوى أن الكاتب أراد أن يرسم شخصيات كتابه بما جبلت عليه تلك الشخصيات. ولم ينسَ الكاتب وهو في خضم سخرية الحلة المرة، طقوس الشعائر الحسينية التي كانت تقام في ذلك الوقت قبل أن تمنع من قبل (القيادة الحكيمة) فقد تجرأ الجنابي في موضوع حسّاس على الإشارة إلى بعض الأمور السلبية التي كانت ترافق أداء تلك الشعائر من قبل بعض الشباب. فقد وجد الكاتب أن تلك المواكب كانت فيها (فسحة عريضة للغزل، حتى أن نصف اللاطمين متهمون بأنهم يزيدون الضرب حين يلمحون عيناً واسعة أو حاجبين معقودين. أما حين يعلو صوت الحشد الناعم المتواري وراء العباءات السوداء بالنواح، فعلى الصدور السلام).
وقد تنبه رجال الحوزة العلمية إلى هذا الجانب فأفتوا بحرمة مشاهدة النساء لهؤلاء اللاطمين بصدور عارية. كما تطرق الكاتب في هذا الفصل إلى حرص أهل الحلة بعد تفاقم الأوضاع السياسية على تناول الموضوع السياسي في كثير من تلك الردات – المقاطع الشعرية – ويورد بعضها على سبيل المثال (يكولون الله يشمر احجار / من هبت العاصفة / راس المشير اختفه .) وقد قيل هذا المستهل بعد سقوط طائرة القومجي عبد السلام محمد عارف، في مدينة البصرة واحتراقه فيها.
وفي أكثر من موضوع يتحدث الجنابي عن قصة عودته إلى العراق عن طريق البحر بواسطة الباخرة الإماراتية (جبل علي) وحمولة هذه الباخرة والمسافرين على ظهرها بأكثر من جنسية وطبائعهم، والأشواق التي تداعب مخيلاتهم قبل الوصول إلى العراق (خاصةً رجال طائفة البهرة وسؤالهم عن موعد الوصول إلى كربلاء المقدسة)، وهواجس الخوف من التأخر في بلوغ ميناء أم قصر، وإحساس العراقي بالديمقراطية وهو على ظهر السفينة، هذه الديمقراطية التي (لم تستطع الاتفاق إلا على شتيمة صدام حسين). والأفكار التي تراود الكاتب وهو في طريق العودة إلى الحلة، والتي وجدها على غير عادتها بعد عقود من حكم الطاغية صدام حسين. فقد استذكر أيامها تلك بمرارة وحسرة (في أيام الغروب البعيدة، اعتاد الحلاويون أن يخرجوا من بيوتهم بأفضل ما يلبسون متوجهين إلى مقاهيها ونواديها وسينماتها وملاعبها بعد نهار من التعب بكل أشكاله، تعب الحرفة وتعب المهنة).
وهناك موضوعات أخرى لا تقل إثارة عما ذكرت في هذا الكتاب، لم تترك شيئاً في هذه المدينة إلا وتوقفت عنده، (مدارس – هيئات تدريسية – طبقة مثقفة – معسكر الحامية – المحكمة – محطة القطار – مستشفى مرجان – أندية رياضية – معمل نسيج الحلة – مقاهي – سينما).
ولم ينسَ الجنابي جريمة الطاغية في تجريف بساتين النخيل (بعد الانتفاضة الشعبانية) لعشرات القرى، جنوب مدينة الحلة والممتدة على طريق يصل إلى ثلاثين كيلومترا.
لقد استمتعت كثيراً بمطالعة هذا المؤلف، الذي صار بحكم الوثيقة الرسمية لهذه المدينة، وشاهدا حيا على بشاعة عهد صدامي – بعثي، امتد لأكثر من ثلاثة عقود، وليغدو هذا الكتاب إرثاً حلياً تتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل (إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها).
أما عن بعض موضوعاته التي قد تثير حفيظة هذا وذاك من الذين يرون الحلة كمدينة الفارابي الفاضلة، أو جمهورية أفلاطون، فقد استلها (أي الموضوعات) الجنابي من الواقع اليومي المعيش لمدينة الحلة، وهي لم ولن تقلل من قيمة وأهمية الكتاب، الذي كان له لسان صدق في أغلب ما ذكر. أرجو أن يُقرأ هذا الكتاب (بعين الرضا) ما دامت هذه العين كليلة عن كل عيب، فالكمال لله العلي العظيم وحده.