هكذا وبكل هدوء ظهر مذيع التلفزيون الهولندي الشاب وهو يعلن فوز فريق أياكس أمستردام بالدوري الهولندي، وينقل خبر احتفال الجماهير بذلك، بدا الخبر عادياً وغير مثير للفضول، لولا أنه ذكر ضمن الخبر أيضاً، بأن مكان الاحتفال قد تغيّر من ساحة المتاحف المتخصصة عادة لهذا النوع من الاحتفالات وانتقل إلى جانب آخر من مدينة أمستردام. وساحة المتاحف هي ساحة معروفة في العاصمة الهولندية حيث تحيط بها مجموعة من المتاحف المهمة ومنها متحف الفنان الشهير فنسنت فان غوخ. كاد الخبر يمر مروراً عابراً أول الأمر، لولا أن المذيع قد أشار في النهاية إلى السبب الذي دعا لنقل احتفال الجماهير إلى مكان جديد. وهنا تأتي الصدمة الجمالية الكاملة وأنا أستمع وأشاهد التلفزيون حيث ذكر هذا الشاب وهو يبتسم، بأن الحكومة الهولندية قد أصابها القلق من رقص وضجيج وردح المحتفلين الذي قد تؤثر على لوحات فان غوخ المعلّقة في المتحف القريب من الاحتفالات، وأوضح التلفزيون بأن هؤلاء الشباب الفرحين بفوز ناديهم وهم يتمايلون نشوة ورقصاً بحركاتهم التي قد تهز المكان بنسبة معينة، سيؤثرون على الأعمال الفنية التي ربما تتعرض لبعض الاهتزازات الخفيفة التي ستجعلها عرضةً للخطر.
تبدو هذه الكلمات قد جاءت من كوكب آخر حين نقارنها بأماكن أخرى من عالمنا هذا!! بالنسبة لي، كان الخبر يحمل الكثير من حب الفن، وهو لا يخلو من الطرافة على كل حال. استقبلت ذلك وأنا أبتسم لانتصار الجمال ورقّه هذا البلد الذي اعرفه جيداً وأعرف حنوّه على إبداعات أبنائه وتراثهم الفني، والتحسّب لكل طارئ قد يؤثر ولو من بعيد على ما يخص الجمال ورفعته وبقاءه. الأحتفالات يمكن أن تجد لها مكان آخر، لكن لوحات فنسنت ليس لها مثيل في أهميتها أو حتى شهرتها، هذه اللوحات التي تمثل وجه هولندا المشرق الذي تنطبع على ملامحه أعمال فنانيه وزهوره الملونة. وهنا لا يمكنني أن أقارن ما يحدث أمامي الآن للأسف الشديد مع بعض البلدان التي يتحول فنّها إلى سبّة وثراؤها إلى لعنة، كما يحدث في بلدنا العراق، أقول ذلك بكل استغراب وألم، حيث لا خوف في العراق أبداً على المتاحف من دبكات أو تمايل راقصين فرحين بفوز ناديهم، أو حتى بفوز حزبهم في الانتخابات، ليس لأن العراق يحب ويشجع الرقص، أو أن حرية الاحتفالات متاحة للجميع، إنما ببساطة لأننا لم نعد نملك متاحف نخاف عليها، بعد أن سُرقت وحُطمت حرمة متاحفنا وأماكن وجود أعمالنا الفنية التي نفاخر بها.
أعرف أن الخطر الذي يداهم فَننا وثقافتنا وحياة أهلنا، أكبر بالتأكيد من ردح الراقصين وأعمق من تمايل معجبات أياكس أمسترام، لكننا كشعب نحب الجمال أيضاً ونسعى إلى الفرح ونحاول أن نبتكر المحبة كذلك، رغم غبار المحن. وهنا أشير وأستعيد الحزن الذي غلّف مشاعر ووجوه مثقفي العراق بعد التفجير الذي طال مقهى رخيتة في بغداد قبل أيام قليلة ماضية، هذا المكان الذي يجتمع فيه المبدعون والمثقفون. كنت أنظر بعينٍ إلى بعض أصدقائنا وهم يشعلون الشموع في مكان الحادث وأشاهد بعيني الأخرى كيف تطفئ الحكومة شموع مسؤوليتها وحمايتها للمواطنين.
ترى هل نبقى نندب حظنا هكذا وفي القلب أمنيات بالوصول إلى مصاف البلدان التي تقدّر الإنسان وتعطيه الأولوية في كل شيء، نعرف بأننا لن نصل إلى ذلك بسهولة لكننا نريد أن نقترب منه قليلاً على الأقل.
بين شموع مقهى رخيتة وهدوء فنسنت فان غوخ
[post-views]
نشر في: 2 مايو, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...