إلى الأديب المبدع احمد سعداوي – غوغول العراقهذه تأملات أولية وذاتية بحتة ليس الا, وكلمات وسطور ليس الا ايضا , ولا ادري ايضا مدى دقتها وحقيقة معناها وقيمتها وأهميتها ومطابقتها للواقع الموجود فعلا , ولا اعرف ايضا كيف سيتقبلها الكاتب العراقي
إلى الأديب المبدع احمد سعداوي – غوغول العراق
هذه تأملات أولية وذاتية بحتة ليس الا, وكلمات وسطور ليس الا ايضا , ولا ادري ايضا مدى دقتها وحقيقة معناها وقيمتها وأهميتها ومطابقتها للواقع الموجود فعلا , ولا اعرف ايضا كيف سيتقبلها الكاتب العراقي المبدع أحمد سعداوي نفسه , اكتبها بعد ان سمعت للتو بفوز روايته – (فرانكشتاين في بغداد) بجائزة البوكر الكبيرة , هذا الخبر الذي كان ينتظره العراقيون بفارغ الصبر - كما يقولون - و في كل مكان في العراق وخارجه إنقاذا وبلسما شافيا لهم من هذا الغمٌ والهمٌ والألم والضغوط والمعاناة والدموع والدماء التي تخيم وتسيطر على مسيرة حياتهم اليومية و أرواحهم وقلوبهم وعقولهم وهم يعيشون في ظل هذه الأوضاع المأساوية في العراق الجريح الذي ينزف دما, والذي يذكرني بالمقطع الرهيب من القصيدة الشهيرة للشاعر التشيلي العظيم بابلو نيرودا –
تعالوا انظروا
كيف يسيل الدم
في الشوارع...
لا أظن أن أي كاتب عراقي او عربي , بما فيهم طبعا الأستاذ احمد سعداوي لم يطلع على قصة (المعطف) لنيقولاي فاسيليفتش غوغول , ولا أظن انه لم يتأمل – وبعمق - تلك الصورة الفنية المدهشة الجمال , التي رسمها غوغول حول خروج شبح أكاكي أكاكيفتش في نهاية تلك القصة وهو يحاول ان (يتحاسب!) مع هؤلاء الذين سلبوه معطفه الثمين لديه , والذي كان بالنسبة له رمزا لحياته كلها , ولكن من المؤكد ان غوغول لم يكن يعرف ولم يكن يحلم ولم يكن حتى ان يتصور ظهور كاتب مبدع عراقي بعد حوالي قرنين من الزمان يحول شبح ذلك الموظف البائس والمسحوق الى تجميع لقطع من الجثث تناثرت هنا وهناك نتيجة إرهاب هائل يجتاح مجتمع إنساني بأكمله, ومن ثمٌ , يخرج هذا الشبح التجميعي وبصورة إنسان متكامل ليقتص وينتقم من قاتليه , كما أقتٌص وانتقم شبح اكاكي اكاكيفتش من هؤلاء الذين سخروا منه وحرموه من معطفه الأثير الى نفسه , (رغم ان بطل سعداوي يرتبط باسم فرانكشتاين وكاتبتها البريطانية ماري شيلي في بداية القرن التاسع عشر ) , لكن شبح سعداوي التجميعي بالطبع اقرب بكثير الى قلوبنا العراقية وعقولنا من شبح غوغول , واكثر مأساوية ودموية ورهبة ورعبا منه بلا شك , اذ انه شبح تجميعي من قتلى كثيرين نعرفهم ونحبهم وقريبين روحيا منٌا , و لأنه - إضافة الى ذلك - لا (يتحاسب) مع الآخرين لمجرد انهم سلبوا معطفه كما هو الحال عند غوغول , بل (يتحاسب) معهم لأنهم قتلوه و سلبوا حياته , صحيح , ان معطف اكاكي اكاكيفتش عند غوغول كان يرمز الى حياته وهدفها , ولكنه رمز مضحك وباهت ليس الا لشخصية واقعية , ولكن مضحكة و باهتة , اما (الشسمه) عند احمد سبعاوي فانه رمز مأساوي لشخصية واقعية وحقيقية , ولكن تراجيدية وعميقة ترتبط بالمجتمع العراقي المعاصر وحياته اليومية ومسيرته في الوقت الحاضر وتمثٌل وتجسٌم هذه الضحايا التي تسقط كل يوم نتيجة هذا الرعب والإرهاب الدموي و العبثي الرهيب الذي يسيطر على مسيرة الحياة اليومية في المجتمع العراقي الجريح.
لقد سبق لنا ان نشرنا مقالة بعنوان – (هل خرج دستويفسكي من معطف غوغول) , وتحدثنا فيها تفصيلا عن مصدر هذه المقولة المشهورة في الأدب الروسي والعالمي وعن الآراء والأسئلة والاستفسارات التي تدور حولها , وأشرنا الى الاحتمالات المختلفة بشأن الإجابات على كل تلك التساؤلات , ولكن الشيء الأكيد في جوهر هذا الموضوع يكمن بلا أدنى شك في ان الشخصية المسحوقة اكاكي اكاكيفتش , بطل قصة (المعطف) لغوغول ومعاناته الحياتية هي التي خلقت هذه المقولة عندما قارنوها بشخصية ديفوشكين في رواية دستويفسكي القصيرة – (المساكين) , وهي مقارنة واقعية و موضوعية و صحيحة جدا لانهما كانا فعلا شخصيتين مسحوقتين من قبل مجتمع ظالم , و لكنهم لم يتحدثوا في تلك المقارنات بالذات عن قضية كبيرة ومهمة أخرى عند غوغول , وهي - ظهور شبح اكاكي اكاكيفتش ودوره في كل هذه البنية الفنية الغرائبية المتشابكة , وكيف استطاع غوغول , وبمهارة فنية مدهشة ان يحوٌل هذا الرجل البائس المسحوق الى شخصية عاصفة و مخيفة تنتقم من هؤلاء الذين سببوا له كل تلك المأساة والمعاناة , وان ذلك لا وجود له بتاتا عند دستويفسكي لا من قريب ولا من بعيد في روايته القصيرة تلك , ولا في عوالمه الإبداعية الأخرى فيما بعد , وهذه هي النقطة الجديدة و الأصيلة والأساسية التي أريد ان اركز عليها وابرزها هنا وأتوقف عندها بتفصيل كبير , ((رغم انها ترتبط بشخصية من الأدب الإنكليزي, لكنها ترتبط شكليا , اي بالاسم فقط, وليس اجتماعيا)) اذ انها هي بالذات التي ذكرتني مباشرة بقصة معطف غوغول و أجوائها وخصائصها عند الحديث عن رواية فرانكشتاين البغدادي لأحمد سعداوي, والتي جعلتني اطرح بشكل مباشر ودقيق هذا السؤال وهو – (هل خرج احمد سعداوي من معطف غوغول؟) , والذي جعلته عنوانا لمقالتي هذه من اجل إبراز هذه الفكرة والتركيز على جوهرها وأهميتها , والتي جعلتني اسجٌل في الإهداء ان احمد سعداوي هو – غوغول العراق. ان هذه هي النقطة التي استطاع خيال احمد سعداوي وإبداعه ان يلتقطها – من وجهة نظري المتواضع - في معطف غوغول بذكاء مدهش ورائع ويمررها عبر قلبه وعقله الإبداعي وعبر الواقع العراقي الذي يحيطه , ويصل بها بالتالي الى هذه الذروة الفنية التي صورها على صفحات روايته الرائدة والأصيلة و الجميلة والرائعة. وهناك شيء آخر , جعلني اربط بين غوغول وسبعاوي , وهي قصة غوغول الأخرى – (اللوحة) او (الصورة) او (البورتريت) كما جاءت في بعض((الترجمات العربية المختلفة)). هل تذكرون كيف تنبعث هناك الحياة في تلك اللوحة وكيف ينزل العجوز من إطارها ويبدأ بالحديث مع الرسام الشاب؟ , الا يذكركم ذلك بانبعاث الحياة في الجسد التجميعي لجثث المقتولين في شوارع بغداد عند سعداوي؟. ان كل هذه العوالم الغرائبية في رواية – (فرانكشتاين في بغداد) , (والتي أشارت اليها لجنة التحكيم للجائزة بدقة وموضوعية فعلا) تذكرني بعوالم غوغول الإبداعية وخياله الفذٌ و المستند الى الواقع والمحلٌق في الوقت نفسه في عالم الفنتازيا الغرائبي , حيث يجد الحلاق في قطعة الخبز التي يقطعها انف ذلك الزبون الذي حلق عند ذلك الحلاق قبل فترة , وذلك في قصة غوغول الأخرى – (الأنف) , هل تذكرونها , هذه القصة المضحكة والمبكية والواقعية والخيالية والطبيعية والغرائبية؟ وأتذكر الآن وانا اكتب هذه السطور وجوه طلبتي في قسم اللغة الروسية عندما كنا نقرأ مقطعا من تلك القصة في مادة – (النصوص الأدبية) للصف الثاني , وكيف كانوا يقهقهون ويرتعبون في آن واحد وهم يستمعون الى ذلك المقطع من قصة (الأنف) ويترجمون كلمات غوغول همسا فيما بينهم وهم لا يصدقون , وهو على الأغلب نفس الإحساس الذي يخيم على قراء رواية سعداوي – (فرانكشتاين في بغداد) من العراقيين خصوصا و من العرب بشكل عام وهم يطالعون سطورها المدهشة والغرائبية والمرعبة والواقعية والحقيقية والخيالية في آن , رغم ان اسمها يرتبط بأفلام الرعب التي كنا نشاهدها أيام زمان , ولكني على ثقة تامة , ان (الشسمه) هذا يحمل صفات عراقية بحتة ترتبط بأحداث مجتمعنا التراجيدية بعمق , وهو ما يفتقده فرانكشتاين.