TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عوالم خصيبية

عوالم خصيبية

نشر في: 3 مايو, 2014: 09:01 م

يسمّي فلّاحو أبي الخصيب ما يتقاضونه عن سبعة أيام من عملهم في (عَمَار) فلاحة البساتين بالأسبوعيّة، وهم يقصدون الورقة النقدية من فئة الدينار، الملكي أو الجمهوري، الدينار الذي يتكفل معيشتهم مدة اسبوع كامل، فإذا قال لك أحدُهم بأنه عاش على أسبوع العَمَار، فهو يقصد بان تكلفة المعيشة للأسبوع كانت ديناراً واحداً. وهم يطلقون على كل ثلاثة يعْمِرون (يفلحون) سويّة كلمة(الدِّركال)- بلام أخيرية ثقيلة- وهؤلاء الثلاثة تصطف مساحيهم سوية ويعمرون في نسق واتساق لكي تستوى الأرض، فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، ومجموع ما يرفعونه بمساحيهم من التراب يطلقون عليه (شِلّه) جمعها (شِلّ) ويسمّون الرجل العَمّار الذي على اليمين بالدِّهدَار، وتعني زعيم المجموعة، الذي يتحكم في موضع وقوع الشلّه، والذي يليه الوسطاني،أما الثالث فيسمى باللايح، واللايح هو الأقل خبرة في الدِّركال. ولأن النهار قصير في الشتاء يتوجب عليهم الخروج بعد أذان الفجر، امّا الذي يأخذه النوم من تعب وحاجة وإحساس بنعومة ودفء الفراش فيترك صلاته لفجر اليوم الثاني. كان الله كفيلاً بحياة أولئك، الذين يتأخرون عن صلاتهم فجراً. كانت الحياة لا تكلف أكثر من دينار.كانت الصلاة بسيطة لا تؤدي بالمتأخر عن أدائها الى النار.
عبر لغة متراكمة من تعب وخضرة وجداول وانهار يشتق الخصيبيون من مفردة الدِّهدار فعلاً، فيقولون كان فلانٌ يدهدرُ لفلان وفلان، وهو يقول عن نفسه دهدرتُ لهم في كاع فلان، ويعني انه على مُقام رفيع، وقيمةٍ ودرجةٍ عالية عند من حضر، لذا فهو بمنزلة ربّان السفينة (النوخذة) في البحر، لأنه المسؤول الوحيد أمام ربِّ العمل (الملّاك) عن جودة وصلاح العَمار، بما فيه عُمق (البِّيس)-والبِّيس يعني مقدار عمق غرزة المسحاة- وتسوية الأرض، لفَّ وشدَّ حاشية الأنهر وقط عروق النخيل وما إلى ذلك، وحين يجلس احدُنا إلى جماعة من العمّارة في الأرض القريبة من الماء ستدهشه ألفاظٌ ومفرداتٌ وتسمياتٌ لا تنفك تحل لغز حياة متشابكة، وها نحن نحاول فك ما يُعجِم علينا من أحاديثهم.
يشترطُ بعض الملّاكين على الدِّهدار وجماعتِه نوعاً مضنياً من العَمَار إذا كانت أرضه خراباً وبوراً، صلبة، كثيرة الحلفاء والثيل والمُرّان وما شابهها من انواع الدغل، بسبب تركها لسنوات دونما عمار، ولكي يجعل من أرضه عماراً بعد خراب يتوجب عليه اختيار أنجع انواع العَمار، وهو ما يطلقون عليه عمار الـ (بيس وردّة) والبيس إدخال حديدة المسحاة كاملة في الأرض، والرَّدَّة معاودة الإدخال لكن بعمق أقل من الأولى، حيث أن الدركال (مجموعة الثلاثة) وبعد كل قلب للأرض بواسطة المسحاة المشتركة، يعودون ثانية ليعمروا في الموقع ذاته بنصف الجهد الأول، بمعنى أنهم يعودون لعمار الموضع مرتين، مرة بجهد كامل وثانية بنصف الجهد، وبذلك إرهاق وتعب في البدن، وتأخير في المتحقق من مساحة الأرض المعمورة. يمكننا تقريب معنى البيس من خلال كلام العامة إذ حين يقول أحدهم (بيّس بيه، وبيّستْ بيه)أي أوجعته ضرباً.
وهناك ضروب أخر من الأبياس(جمع بيس)غير(البيس وردّة) هو بيس قايم (قائم) وهو الذي تكون المسحاة فيه قائمة غير مائلة، لتنغرس أعمق، إذْ أنها كلما غاصت في التراب أكثر كانت أنفع وأصلح للزراعة، لأنها تقتلع عروق الدغل من آصالها وتمنع نموها ثانية، وضرب ثالث من البيس يسمّونه(بيس ونكشه) من النقش، أو النكز، وهي أن يقوم العمّار او العَمّارة بنكز الشلّة نكزاً خفيفاً بما يفتتها ويكشف عن الدغل فيها، وهي عملية لا تكلف الجهد كما في البيس والردّة.أما أبسط ضروب العَمَار فهي (الثيارة) التي منها قوله تعالى: "قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ.." وهي إثارة ونثر التراب وتسويته بما يجعل البستان جاهزاً للتفصال والزراعة.
والتفصال هو شق الأرض على شكل مشاريب- مفردها مشروب- او مشاير- مفردها مشارة- تبعاً لنوع المحصول الذي سيزرع فيه، فإن أراد زراعتها بالطماطم او الخيار أو الباذنجان وسواها عمل لها المشاريب وإن كانت غير ذلك مثل الجت او الشعير او الخضروات مثل الكرفس والفجل والكراث والنعناع جعلها مشاير. ثم بيّن لنا أحدهم بأن المشروب هو شقٌّ طوليٌّ في الارض المعمورة، يختلف عمقه تبعا لما سيزرع فيه، والمشارة قطعة من الأرض تختلف مساحتها باختلاف ما سيزرع فيها أيضاً مسوّرة بحاشية من التراب بارتفاع شبر، تمنع خروج الماء كيما يأخذ الزرع حاجته منه.
نعترفُ بان افعالاً كثيرة من التي يقوم بها اهل أبي الخصيب لا يمكن حصرها في تعريف ما، هي محاولة لتقريب معاني الأفعال المضنية تلك، لأن اللغة بما فيها من سعة قاصرة عن سبر ما تراكم لدى هؤلاء من أنشطة، نحن ندخل الكوخ أو الصريفة، وسط غابة النخل، على الترعة هذه وتلك، سيدخل علينا من ترك مسحاته مائلة على خص السعف وأهمل يشماغه يتدلى على حاجبه، سيقول لنا : السلام عليكم وسنقول له وعليكم السلام. لكنه حين يانس بنا سيقول كلمات كثيرة، ربما أكثر مما بينّا، عن العمار والجريان(بجيم اعجمية) عن الفراوند والمناجل والعكافي وكثير مما تشاكل وتشابه علينا، تلك التي تركها في أكواخ وصرائف .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

التلوث البيئي في العراق على المحك: "المخاطر والتداعيات"

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram