TOP

جريدة المدى > عام > انحدار الروح من البهجة.. قراءة لقصيدة كردية

انحدار الروح من البهجة.. قراءة لقصيدة كردية

نشر في: 4 مايو, 2014: 09:01 م

هذه قصيدة للشاعر الكردي "هيمن" (المولود سنة 1921 في قرية لاجين قرب مهاباد). بدءاً، القصيدة من ترجمة الاستاذ محمد سالار شيخ علي، وقد وردت شاهدا مع قصائد اخر، في دراسة له عن الشاعر. عنوان القصيدة "نحو الأفق" والشاعر مهتم بهذه الثيمة، كما لاحظت في قصائد

هذه قصيدة للشاعر الكردي "هيمن" (المولود سنة 1921 في قرية لاجين قرب مهاباد). بدءاً، القصيدة من ترجمة الاستاذ محمد سالار شيخ علي، وقد وردت شاهدا مع قصائد اخر، في دراسة له عن الشاعر. عنوان القصيدة "نحو الأفق" والشاعر مهتم بهذه الثيمة، كما لاحظت في قصائده الاخرى. توقفت عند هذه القصيدة، لاسواها لاسباب سيكشفها ما يأتي من الكلام. وقد وجدتني انتهي من القصيدة قبل انهائها بثمانية عشر شطرا. ذلك لان هذا القسم "الاخير" ، بدا لي لاضرورة له، او هو ينحو بالقصيدة منحى آخر. لقد رأيته يغير من مستوى القصيدة واتجاه الافكار فيها. وما اخترته، يبدأ من "لقد كنت صوفيا في الخانقاه" وينتهي بـ" وقبالتي شبح الموت حيث أسير". وقد رأيت القصيدة كاملة في هذا القسم الذي همني منها، متدخلا في صياغة بعض عباراتها العربية، مما يتطلبه جمال الشعر وحق الفن علينا:
لقد كنت صوفيا في الخانقاه
واصبحت نديم نادٍ
وبعد ان كنت زاهدا في خلوة
أنا الآن ثمل بالحميا
وظل نفح العرعر يهب علي 
طلقاً يخلب اللب،
لايخفى اني ولهان، اتعشق
القامة ذات الغنج
شغوف بلمع الجمال حيث يكون،
فتفتنني الثياب القصار
كما اجد السِحْرَ في الخمار، 
لكلٍ روعة وخطاب:
للأصيل جماله وللجوزاء والغبش
الساكن في الفجر 
للسماء الصافية جمالها وللبحر الهادئ
وظل الجبل
للتفاح المحمرّ وللسفرجل الذهبي 
والرمان بلون الورد.
انا من واجه القيظ والجليد،
لفتني سموم الجنوب اللافحة 
وتجمدت في صقيع "كه دم"
على قلق كأني على موج نهر طاغ
التف "بأسمالي" وأدور حول نفسي 
انا كردي هذا العصر
طريقي وعرة بين وديان وسفوح 
وجلاميد صخور
عليّ ان امضي، ان اسرع،
أواصل الخطى دون راحة،
أسير نحو منزلي
وقبالتي شبح الموت حيث أسير.
الى هنا نكون أمام قصيدة متكاملة البناء، متكاملة المضمون. فلنقرأها الآن قراءة جديدة، لنتبين ما انجز الشاعر من أفق وما أتى به من معان، وهو يكشف موضوعا عايشه وتجربة "خاصة" مرَّ بها.
عرض الشاعر تجربته بثلاثة فصول، كل واحد يسلم الآخر رسالته او إنجازه. أولها: ان الشاعر كان صوفيا في الخانقاه. ونحن نعرف عالم الصوفي في التكية او في الخانقاه بين مريدين وشيخ يتلقون تعاليمه وناره ونعرف ساعات الخلوة وانتظار البرق او الرؤيا.
لكن هذا الصوفي صار مُدْمنَ سكرٍ في ناد، كردي العصور السالفة، او القرن الماضي هو اليوم سكير في حان، يغيب عن زمنه ومثالبه وعيوبه بخمرة تنسيه او تنفيه. هو الآن "ثمل بالحميا" او مخمور في ناد. ومع تحول حاله من صوفي ثمل بالخمرة الإلهية في الخانقاه الى سكير في ناد، ما انقطعت صلاته الاولى وظل شذى العرعر يأتيه طلقاً، وظل الروح الاول يعاوده. ظلت تهب عليه نسمات شذية عذاب تأنس لها الروح فتصحو وترى بعض ما كانت ترى من جمال.
هذا الخيط، خيط الوصل، بالصوفي الاول يتطور ويقوى، فنرى صاحبنا متأملاً مأخوذا بنور الذات الإلهية، ولكن فيما يتجلى فيه ذلك الجمال او ذاك النور. هو ما يزال عاشقا، يأخذ بلبه اللمع من هذا الوجه او تلك القامة او من الطبيعة في البحر الهادئ والسماء الصحو، والسفرجل الذهبي والرمان بلون الورد والتفاح الأحمر .. ومن هذه التفاصيل، يبدو كردياً اصيلاً مبتهجاً بالطبيعة والألوان "السفرجل الذهبي / الأصفر/ والرمان الوردي والتفاح الأحمر وهو لم ينسَ الطرق الوعرة والسفوح والوديان، ولم ينسَ صقيع "كه دم" بل هو قبل هذه عرّف نفسه وشخصيته وطبيعة حركته القوية المتسارعة، كأي جبلي، وهو يريد الوصول:
أنا كردي هذا العصر 
طريقي وَعْرٌ بين وديان 
وسفوح وجلاميد صخور
عليّ ان اسرع، أواصل الخطا من 
دون راحة ..."
لقد اكتملت التحولات، من صوفي الخانقاه، الى سكير النادي الشغوف بالجمال حيث يكون، الى كردي هذا العصر يواصل الخطا ومسرعا يسير ليوقف نشوتنا ويصدمنا، يذكرنا، منتبها بأسى الى محنة الانسان، الى عذابه اليومي، الى 
شقاء حياته. سَمّهِ الموت، او سمه القوة الغاشمة:
أسير الى منزلي
قبالتي شبح الموت حيث أسير 
اتضح الآن لماذا توقفت عند هذا الحد من القصيدة فهنا تكامل الموضوع، واستُكْمِلَتْ تجربة او رؤيا حياة بدأت بمنحى صوفي وانتهت بانكسار البهجة:
قبالتي شبح الموت حيث أسير!
هكذا منحت نفسي حق الاختيار بعد حقي في الرؤية والفهم. لقد ارتأيت هذه النهاية للقصيدة وارتضيت ذلك القسم منها وفضلته على ما تبقى، وان كان لما بقي دلالاته لكنه يجعل القصيدة فضفاضة مترهّلة:
فالمأوى حفرة القبر أتدحرج اليها
بلا قدم
بل أطير أطير بجناحين نحو الأفق
ونحو النور
كيف أحبو نحو الظلمة واستند
الى الشيطان!
كم من الينابيع الصافية رأيت 
ما عكرتها سيول الربيع
وكم من الثلوج غطت الجبال
فأصبحت بخاراً وشآبيب مطر.
رأيت حياة قصيرة مفعمة بالفخار
وحياة طويلة انتهت بخزي وعار
نيران أعماقي ملتهبة تضيء الوطن 
وانا ادخل في بحر العدم ..
وكما ترون ، هي سطور تثقل القصيدة ولا تضيف لها كثيراً. انها طبيعة النظم والاستطراد الذي يحاول الشعراء عادة ان يفرغوا لواعجهم خلاله وافكارهم كلها. لكن القصيدة عمل فني، لها بداية، ولها مدى يحدده جو القصيدة وموضوعها، لتصل الى نهاية مكملة للعمل غير متطوعة الصلة عن بداية القصيدة. 
وقد يرد عليّ متخصص، انه شاعر نضال و صاحب قضية. واقول نعم. يمكن ان تكون للنضال قصيدته وللقضية قصيدتها، ولكن لهما مواصفات القصيدة الفنية ومعمارها. فمجد القصيدة بفنها وبأهمية موضوعها. وموضوع بلا فن ليس عملا فنيا. لامجال للتساهل في هذا الأمر. لكني اقدر زمن الشاعر ومرحلته، فقد كان ذلك هو فن الشعر وكانت تلك هي ثقافتهم النقدية. ويبقى لكل شاعر رؤيته ودرايته. احترم كل ذلك تمام الاحترام وانظر لهذه القصيدة باعتزاز ولكني أراها كما رأيت وعند ذلك الحد، وأتمنى على قارئ اليوم المعني والمتخصص، ان يقرأها الى الحد الذي اخترت ويعيد قراءتها كاملة كما كتبها الشاعر، وله بعد ذلك قناعته وله بعد ذلك رأيه.
في الأخير أقول: كل شعرنا القديم بحاجة الى اولاً إعادة الاحترام وثانياً إعادة القراءة ، فلكل جيل كتابته كما ان لكل جيل قراءته وتلك هي متعتنا الأدبية...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الأنواء الجوية: ارتفاع في درجات الحرارة الاسبوع الحالي

الكويت تنفي تدهور الحالة الصحية لسلمان الخالدي الذي تسلمته من العراق

ترامب: نريد 50% من ملكية تطبيق تيك توك

القوانين الجدلية على جدول أعمال البرلمان يوم غد الثلاثاء

هل أخطأ البرلمان بعدم حل نفسه مبكراً؟

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

مقالات ذات صلة

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو
عام

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو

علي بدرفي مدينة تتلألأ أنوارها كما لو أنها ترفض النوم، وفي زمن حيث كانت النجومية فيها تعني الخلود، ولدت واحدة من أغرب وأعنف قصص الحب التي عرفتها هوليوود. هناك، في المكاتب الفاخرة واستوديوهات السينما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram