في الشأن العراقي، هناك نهار الانتخابات في أفق الآمال، وهناك ليل المعترك السياسي الذي تخلفه الانتخاباتُ على أرض الواقع. والعراقي يقطع نهار الآمال إلى ليل المعترك كل يوم، دامياً ومنهكاً.
ذهبتُ صباحَ يوم الانتخابات مع صديقين للإدلاء بأصواتنا، ففي لندن مركزان لها، وكلاهما قريب نسبياً من محل إقامتي. كلٌّ منا يجد في خطوته المسؤولة جدوىً ما لا يعرف لونها. ويجد فيها لا جدوىً أيضاً، ويكاد يعرف اللون الذي تنطوي عليه هذه اللاجدوى. كل منا يُضمر اسمَ مرشّح جاءه بفعل الصدفة (إذا كنت غير منتمٍ فكل اسم علْمٌ في الغيب)، أو يهمس باسم توجّه غائم. ونكاد نبوح لبعضنا بما نُضمر ونهمس، لا بفعل ثقة متأصلة، بل بفعل لامبالاة يغذيها فقدان الثقة بنسغ بارد.
يوم كنتُ في العراق لم أكن إنساناً وطنياً، ولا قومياً، ولا أممياً. ولذلك كنت بالغَ الضعف، ولا يصح أنْ أؤخذ مأخذاً جدياً، وسط مناضلين أشدّاء. اليوم تلاشت هيمنةُ الوطني، والقومي، والأممي، وأصبح المناضل هُزأة، ولا يجرؤ أن يتّصفَ باللقب عاقل. وفي المنفى اليوم فقدتُ كل صفة، حتى صفة المنفي. لأن المنفى كان ثابتَ الجذر في داخلي هناك أيضاً، وبوقت مبكر. أتجه إلى مركز انتخاب ينوء بقوائم انتساب بالغ الغرابة هذه المرة، لا للوطن، ولا للقومية، ولا للأممية، بل للطائفة أو العشيرة، أو لمصلحة فردية موعودة. هو انتساب لديموقراطية معتركٍ بالغ العنف، بالغ الدموية، لأنها ديموقراطية أحزاب عقائدية (والعقيدةُ نفي الآخر، واختزال الانسان بفكرة مجردة)، لا أحزاب تختلف مع بعض في زاوية النظر بشأن اقتصاد البلد، أو بنائه التعليمي، أو سياسته الخارجية،... وعليّ أن أعلن لنفسي على الأقل، بأن ألوان الانتساب الجديدة هذه لا تصلح لباليت الرسم في يدي اليسرى، وأن أبجديتها لا تصلح لرؤى الشعر في الرأس. وأن ألحانها لا تصلح لأوتار القيثارة في صدري.
إحدى جمل دوستويفسكي الأثيرة في روايته "الأخوة كرامازوف" تقول: "إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح." كان الرجلُ مذعوراً بالتأكيد، لأنه يعرف أن غياب الله ينطوي على معانٍ عدة، منها استباحة الآخر، والانتصار لأطماع النفس (والعقيدةُ تحقق ذلك). والذرائعُ مركومة على الرصيف مجاناً. فإذا افترضنا أن مرشحاً حصل على كرسيّ في البرلمان، أو ارتقى إلى مواقع في القيادة، وأصبح بعد عام صاحب عقار في داخل البلد وخارجه، وثروةٍ وافرةٍ ومغانم، فلابد أن يكون قد ارتكب اختلاساً وسرقةً بذرائع ، وتحت ألف قناع. ولكي يفعل ذلك لابد له من تغييب الله بين الحين والحين. لأنه لو فعل ذلك دون تغييب الله لكفر.
ولا يصح حينها في بهو ديموقراطية الإيمان، التي تشبه صومعةَ رهبان، أن يحتلَّ مقعداً. لقد أتقن بمهارة دوره، في حضرة الله تعالى وفي لحظة تغييبه لله، في أن يكون بليغَ الكلام، حلوَ الابتسامة، رائقَ الطبع، سمحَ الجبين. قلت كلَّ هذا لصاحبي، ثم أضفتُ، ونحن نغذ الخطو باتجاه المركز الانتخابي:قرأت مرة في كتاب "عيون الأخبار"، على ما أذكر، أن عمرو بن عبيد، وهو من رجالات المعتزلة، مر بجماعة عكوف ، فقال ما هذا ؟ قالو والي البصرة يقطع سارقاً! فقال لا اله إلا الله ، سارق السرِّ يقطعه سارق العلانية. للناس قلوبٌ سمحة. حين أتحدث مع أخي المُسن عبر التلفون، وأقرأ عليه هذا الخبر، كثيراً ما أجده يردد: "الناس يقولون لسارق العلانية: ألف عافية. على شرط أن يُنجز عملاً نافعاً لهم. وارد البلد من الثروة خيالي، فليختلسْ واحدهم، ولينجزْ! إني لأعجبُ كيف لا يُذعر واحدهم من يوم القيامة، والله لا تَخفى عليه سرقةُ السر، فكيف بسرقة العلانية!" نهار لندن رائق في نهار الانتخابات هذا. سحب قليلة وشمس كثيرة. ألم أقلْ إنه نهارٌ في أفق الآمال. ولكن هناك ليل اعتاده الناس، هو ليل المعترك الذي لا يشتري آمالَ الناس بعانة. ليل المطامح السياسية بالغ العتمة.لنتفاءل، واصلت الحديث، خاصة ونحن نعبر عتبة المبنى، ونرى وجوه الناس الذين يتحركون ناشطين كمن يقطف فاكهةً في بستان. مشهد رائع. ولكنني لا أستطيع أن أغفلَ مخاطرَ أولئك الذين يغلي الطموح السياسي في دمائهم. وهم كثر، فاحذر أن تكون منهم.اقتربت من أحد المكاتب فرحب موظفه بي، وطلب ما يُثبت عراقيتي: جواز السفر البريطاني مع وثيقة عراقية قديمة. أخرجت جواز السفر ودفتر الخدمة العسكرية، فأسف لأن دفتر الخدمة لا يصلح. هل من شهادة جنسية؟ لا، فقد خرجت منذ 35 عاماً. لن أستطيع الإسهام إذن.خرجت إلى نهار لندن ثانية، وأنا أحدّقُ في نهار الانتخابات على امتداد أفق الآمال.
نهار الانتخابات
[post-views]
نشر في: 4 مايو, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 1
قارئه
كفى النيَّة انتصارا على ترهات السائد، أمدَّ الله لكم العمر للقادم من الانتخابات .