واحدة من تلك الصور الأكثر تأثيراً والتي أعرف أنها أُخذت في العاصمة النمساوية، فيينا، ويرجع تاريخها إلى 1 أغسطس-آب 1914، التقطها المصور بالتأكيد من بالكون مطل على ساحة كبيرة، تجمع فيها حشد بشري متوتر وهائج. بعد سنوات ليست قليلة، كما يبدو في مدينة ألمانية وعند رؤيته لحشد شبيه، شعر الشاب الياس غانيتي بالخوف أمام قوة السلطة التي تحملها صورة جماهير هائجة ومنتفضة بصورة عمياء، ثملة بزئيرها ذاته وضياع كل فرد منها وسط الجماعة "الثائرة" (كما كتب ذات مرة). جمهور صورة فيينا، هو في الحقيقة عبارة عن حقل من الرؤوس الذكورية، يرتدون القبعات، لديهم باعث قوي يدفعهم للحماس: لقد أعلنت الإمبراطورية الهنغارية النمساوية بلحظات قليلة قبل أخذ الصورة تلك قرار الحرب، حيث أثار ذلك الإعلان مباشرة وفي كل عواصم أوروبا (من غير المهم أي طرف كان في الحرب) ردود فعل لتنظيم سلسلة من المسيرات الحماسية المماثلة، سلسلة مشابهة من الصرخات التي تدعو للحرب، سعيدة للمصير الذي ينتظرها: الخراب.
لكن ليس هناك أحد، في اللحظة التي أُخذت فيها الصورة، كان بإمكانه التخيل، بأن منذ ذلك التاريخ (هل هي صدفة أن تدخل جيوش البعث بعد ستة وسبعين عاماً مدينة الكويت في التاريخ ذاته!!)، ستبدأ سلسلة من المسيرات العسكرية، والمعارك الحربية على الطريقة القديمة (كما يعتقد العديد من سياسينا حتى الآن عندما يستحضرون في لحظات الحرب "الثورية" أو في مسلسات رمضان التلفزيونية أيام عمر بن الخطاب وحرب القادسية وفلم الرسالة وحروب الكردي صلاح الدين الأيوبي الذي عربوه بالقوة!)، إنما ستبدأ مرحلة من الدمار الكامل، تحل فيها قيامة من الموت والخراب، عصر من الدمار الكامل لم تعرفه الإنسانية في تاريخها حتى تلك اللحظة، وبأن ملايين من البشر سيلقون بأنفسهم طواعية في مستنقعات جحيم الحرب، إمبراطوريات وأجيال كاملة.
عندما نُشرت هذه الصورة، كان المقصود منها إثارة الانتباه عند المشاهد إلى مركز دائرة صغيرة فيها تحيط بوجه معين، أو سهم يشير ناحية ذلك الوجه: إنه وجه شبيه تقريباً بوجوه الآخرين، رجل شاب، نحيل، بشارب بارز، الوحيد الذي نزع القبعة وحملها بيده، ولا يُعرف سبب قيامه بذلك، هل من أجل الهتاف أم من أجل تخفيف الحرارة المنبعثة من الأجسام المكدسة في ذلك النهار من أغسطس/آب. ليس هناك أحد بإمكانه التأكد من هوية أي شخص من أفراد الحلقة الصغيرة المحيطة به، المتحمسة للموت: لكن هذا الرجل الشاب، التقليدي جداً، النائي جداً، المختلف عن الحشد بنزع القبع، هو دون أدنى شك ليس غير الرجل الذي سيدخل التاريخ على طريقته الدموية والبشعة: أدولف هتلر.
سنوات قليلة قبل ذلك، كان هذا الشخص القابل للذوبان والاختفاء في حشد فيينا لولا نزعه للقبعة، كان شخصاً فاشلاً دون أصدقاء ودون مستقبل وصل به المقام أن ينام في الحدائق وعند عتبات البيوت. حتى تلك اللحظة، يوم التقاط الصورة، لم يعرف لا هو ولا العالم، بأن الشخص النكرة هذا سيُكافأ على حماسه الحربي ذلك، فهو رغم إنه لم يستطع البقاء في الحرب حتى نهايتها، لكنه سيشعر باللذة لاشتراكه فيها، خلال الأربعة أعوام التي استمرت عليها، حتى أنه ظل يتذكر إلى الأبد "تلك السنوات الجميلة"، ويعتبرها أفضل سنوات حياته. جرحوه مرة واحدة لكنه ما أن وجد نفسه قد استعاد بعضاً من صحته، حتى طالب بإعادته للجبهة. أما أولئك الجرحى "المتكاسلين" الذين ظلوا في المستشفى بعد شفائهم، لكي لا يرجعوا للخنادق، فقد وشى بهم أمام رؤسائهم، لكي ينالوا العقوبة التي يستحقونها "على خيانتهم للوطن" كما كتب نفسه لاحقاً!
أراه في الصور حينما كان شخصاً نكرة، حتى تلك اللحظة، لم يكن شيئاً، لم يكن فيه ما يدعو للاهتمام، ولا يمكنني حمل نفسي على تخيل فرضيات عبثية عن ذلك الذي سيحدث، أو عن ذلك الذي لن يحدث أبداً: ما هو عدد الرجال الذين كانوا يصرخون ويهتفون ملتصقين به في الصورة، سيموتون بقذارة في الأربع سنوات القادمة، وما هو عدد الذين سينجون من الحرب العالمية الأولى لكي يملأون من جديد الساحات بعد عشرين عاماً ويهتفون باسمه عالياً، وهو يدخل فيينا لكي يلحقها إلى ألمانيا، لكي يلحق "الفرع بالأصل".
يتبع
صورة زعيم.. البذرة المسمومة
[post-views]
نشر في: 6 مايو, 2014: 09:01 م