ظاهرة التجديد الثقافي ارتبطت كثيرا بجدل الفعاليات الثقافية العراقية منذ اكثـر من ستين عاما، وأصبحت جزء من هواجسها واشتغالاتها الدائمة وربما هوسها الدائم وأسئلتها الأكثـر ضجيجا، حتى بتنا لا نطمئن كثيرا للحظة الساكنة، الكل يتوق الى المغامرة والنزوع الى
ظاهرة التجديد الثقافي ارتبطت كثيرا بجدل الفعاليات الثقافية العراقية منذ اكثـر من ستين عاما، وأصبحت جزء من هواجسها واشتغالاتها الدائمة وربما هوسها الدائم وأسئلتها الأكثـر ضجيجا، حتى بتنا لا نطمئن كثيرا للحظة الساكنة، الكل يتوق الى المغامرة والنزوع الى التجديد، حتى ان البعض يتهم هذا المشهد بخضوعه الغريب الى صناعة الإشاعات، تلك التي كانت تتمظهر على شكل حكايات، وأسماء مضخمة، بيانات تعتار المشهد الثقافي العراقي كثيرا..
هذا الهوس بالتجديد وحتى الإشاعة بأوهامه اصبح مثارا لأسئلة كبيرة، ليس في العراق وحده وإنما في المشهد الثقافي العربي.. الكثيرون يتساءلون عن حيوية هذه المغامرة العراقية، وقدرة الشعراء العراقيين خاصة عبر ظواهر جماعاتهم او أجيالهم، على ان يكونوا حاملي مشاعل وسارقي نار بامتياز. الشاعر محمود درويش ربما كان الأكثر هوسا بتوصيف هذه المغامرة العراقية المولدة حينما قال(كن عراقيا لتكن شاعرا)
نزوع المغامرة الثقافية في الشعر والقصة ارتبط بنزوع اخر لكنه اقل هوسا، هو نزوع النقد الأدبي الذي دخل نوبة من الطوارئ أمام أزمة ملاحقة ومتابعة التغيرات الواسعة الحادثة في المشهد الثقافي العراقي، اذ حاول النقاد ان يصنعوا لهم بالمقابل الكثير من الاشتغالات والتثاقفات والنقود الإعلامية وربما البعض من الإشاعات والظواهر الخلافية لكي يمارسوا لعبة الركض الباسل نحو ما يصطاده الشعراء والقصاصون من نجوم او أوهام عابرة ومحتشدة.
اقتران هوس الثقافة العراقية الإبداعية بالتجديد والمغامرة يرتبط أساسا مع ظهور ملامح الحداثة الشعرية التي ارتبط بها هذا المشهد الثقافي العراقي منذ عام 1947 بشكل غريب، والذي تحول الى حزمة من الشفرات التي أسهمت في إنتاج وتحريك اغلب التداعيات والظواهر التي تشكلت في المشهد الثقافي العراقي خلال السنوات اللاحقة.
لقد جسدت مغامرات السياب ونازك الملائكة والبياتي والبريكان وبلند الحيدري وسعدي يوسف ويوسف الصائغ وفاضل العزاوي وسركون بولص وغيرهم من الأجيال المغامرة، هذا النزوع المتدفق لفكرة المغامرة، اذ عبر عن صورته من خلال جملة من المعطيات الصراعية، والتثاقفات والإشاعات، تلك التي تحولت الى شفرات استيهامية لإشاعة الحداثة، ولحمولاتها الرمزية والثقافية، والى التعبير عن نوع من الامتلاء الثقافي..
كل هذا لم يسهم في صناعة صورة واضحة للتراكم الثقافي، اذ ظل المشروع الشعري مهيمنا، والموجهات الأيديولوجية ضاغطة، والإشاعة حول مفهوم الحداثة عميقة الأثر في الوسط الثقافي الرخو، واحسب ان اصطدام المشروع الثقافي بعد أحداث الستينات كان الفيصل في فضح خواء التأسيس، اذ ظل المثقف العراقي يعيش رعب السلطة، وفوبيا اللغة، وأوهام الحداثة..
ورغم ما اقترن بنشوء الظواهر الثقافية الإبداعية من علامات للتجاوز والتجديد، الاّ ان التفاعل الحاد والتصارع الصاخب والهوس كان العلامة الأكثر حضورا من علامات التحول في وعي الثقافي، أسبابه وإشكالاته، والذي لم يضع في حسابه بشكل طاغ(رعب السلطة ورعب الإيديولوجيا وحتى رعب الحرب) لان هذا الثقافي رغم مغامراته، وتجريباته وحتى نضالاته الاجتماعية والسياسية وصدماته كان في جوهره حلميا، ارتهن في الكثير من مغامراته الى توليدات الوعي الشقي وحدوسه، فضلا عن تعاقداته بتاريخ الصراعات القديمة والانقلابات، تلك التي صنعت الكثير من الحوابس والتابوات البعيدة عن الأجواء المعرفية للثقافة او حتى لأي شكل من أشكال الاستشراف لفكرة الصناعة الثقافية، اذ كانت خاضعة لتهويمات الانقلابات العشوائية او العسكرية، والى طبيعة الصراعات فيها، التي الخاضعة الى مرجعيات أيدولوجية وعشائرية في اكثر مظاهرها.
هذا التوصيف اسقط المثقف العراقي طويلا في منطقة الإشاعة الثقافية، مثلما أسقطه في دائرة الإيديولوجيا الرومانسية الثورية التي تحولت الى غواية كبيرة اكتشف الكثيرون من المثقفين خداعها بعد زمن الخيبات، ليمارسوا إزاءها وعيا نكوصيا، او ربما نوعا من الهروب الجماعي من كل الأيديولوجيات باتجاه الحرية او الذات، وربما باتجاه الآخر. واعتقد ان هذا الهروب الجماعي هو الذي صنع الظاهرة الكبيرة للمنفى الثقافي المتشظي والذي اسهم في تفكيك الكثير من مكونات النسق الثقافي العراقي، رغم ان هذا المنفى لم يستطع ان يصطنع له هوية معينة، ولم يتحول كذلك الى اندماج حقيقي في سياق ثقافة الآخر، كما لم يتحول الى منفى منتج على طريقة أدب المهجر اللبناني، اذ عاشته الثقافة العراقية منذ نهاية السبعينات والى يومنا وهي مسكونة بنوع من الحنين والرعب واحيانا بنوع من الاستلاب الذي لم يستطع ان يصطنع له نسقا مقابلا يمكن قراءته بمنظور نقدي له مرجعياته وإجراءاته.
ما حدث من مناف وهجرات، وأزمات سياسية دامية وحروب عبثية وصراعات اثنية وقومية وطائفية تركت اثرها الكبير في المشهد الثقافي، ولم تحفظ أجندة الثقافي في ذاكرتها شواهد كبيرة لهذه الصراعات، لأنها كانت صراعات خارج نسق الثقافة تماما، تلك الثقافة النكوصية المشغولة بصراعات ضد اللا جدوى والاغتراب الوجودي والفلسفي ومواجهة اغترابية لأوهام الاستعمار والرجعية كما تصفها الأيديولوجيات الثورية طبعا..
اول تفكك حقيقي صادم لأيقونة هذه الثقافة، كان بسبب صعود الاستبداد السياسي، والديكتاتورية السياسية والأيديولوجية، تلك التي أسهمت في صناعة صورة ضدية للاغتراب الداخلي، او ربما صناعة مقدمات للمنفى الثقافي، فضلا عن اصطناعها لظواهر مرعبة من العنف والطرد المنهجي، والتي كانت المقدمة لتفكك اكثر خطورة ورعبا، تلك التي تجوهرت في ظاهرة الحرب العراقية الإيرانية، تلك الحرب التي أنهت رومانسية الثقافة العراقية ورومانسية الإيديولوجيا العراقية، لأنها أسست لزمانات قابلة وطويلة من المحن الاضطهادات والمنافي والحروب المتوالية والتي قادت بالضرورة الى إنتاج عوامل احتلال العراق.
هذا التشكل المعقد اسهم في وضع الثقافة العراقية أمام أزمات بنيوية عميقة، أزمات طاردة، انعكست في أساسها على ظاهرة التجديد الثقافي، اذ انها أسهمت في ترسيم محدد وقهري للخارطة الشعرية العراقية، وفرضت نوعا من التعمية على الكثير من اسماء المثقفين المجددين، هي لم تطرد شاعرا او شاعرين، بل طردت الظواهر، هذه الظواهر العميقة الصلة بالمكان/البيئة والوعي، والعميقة الصلة بالسياق الثقافي المنتج والمجدد...
إزاء هذا التقاطع، وهذا الطرد القديم والتجدد، كيف لنا ان نعيد قراءة ظاهرة(التجديد) في السياق الثقافي بشكل عام والشعري بشكل خاص؟ وان يمكن ان ننقذ الثقافي المسكون بالرومانسية من الثقافي المتعين، والمقنع بصورة السياسي المسكون بالتوحش والهيمنة والقسوة، ام اننا نسعى الى إنتاج أنماط ثقافية تملك شرطا اكثر قدرة على التناغم مع معطيات التحول، معطيات التشكل في مرحلة ما(بعد الطوفان)؟
وهل يمكن ان نغامر بالدعوة لاستعادة دور(القبائل الشعرية) التي صنعت هوسا ثقافيا كان يقف تماما بالضد من كل عوامل الموت والإرهاب والإقصاء؟ وكيف لنا ان نستعيد حقا عراقيا ضاعت خطوطه وملامح خارطته عند الكثير من المدعين والمنافقين الذين يمارسون الان لعبة الاعلاملوجيا والتخندقات التي لا تحمل جديدا في مشروعها، سوى انها تمارس لعبة استعادة الماضي بكل ما يعنيه من مهيمنات وأشكال ضاغطة وأغراض ميتة، ولعل بعض يحاول على خجل وتحت مهيمنات خرجية ايضا ان يسعى لاستعادة تشبه استعادة قطع اثارية ضائعة، لا فعالية لها سوى انها ستكون جزء من الاحتفال او ربما جزء من المتحف ذاته.
احسب ان ممارسة حق الاستعادة والمجاهرة بها ليست بالبحث على طريقة التاجر المفلس! بقدر ما هي الرغبة الحقيقية باستعادة الدور وتفعيل كل الإمكانات التي تملك قدرة التأسيس ليس انطلاقا من الماضي، بل الحاضر، هذا الحاضر المزدحم والمكشوف والضاج بكل الأسئلة، فضلا عن الحرص على تنمية المسؤوليات الثقافية الفاعلة(الوطنية والإدارية)، تلك التي تقترن بإعادة إنتاج مسؤوليات التأهيل وبناء(المزاج) الذي افقده الرعب والاستبداد ومغامرات الحروب روحه(الحية)
هذه المسؤولية لا تعني نخبة او طيفا او جماعة دون اخرى، انها جزء من(صناعة الوطن)و(صناعة المواطن) وصناعة(المتلقي)و(القارئ) وأظن ان هذه المسؤولية هي وحدها التي يمكن ان تضعنا الان عند خط(الكشف) ليس حنينا لزمان الرومانسيات الثورية والثقافية والإيديولوجية، لكن باتجاه ان يتمكّن المثقف العراقي الجديد من البحث عن نسقه الضائع، مثلما يتمكن من ممارسة حريته واستقلاله وشهوته القديمة بالمغامرة، وحين نستعيد ما قاله الشاعر فاننا نستعيد ما يؤكد هذه الحقيقة، حقيقة الروح الحية، الروح الباثة، الروح التي تستعيد سؤالها عند لحظة توهجها او صيرورتها الديموزية، بعيدا عن ثقافات النمط التقليدي، وتجاوز عقدة ثياب الإمبراطور المثيرة للسخرية.
من المسؤولية بمكان ان ندعي هذا الحق، وان ندافع عند، وان نحرص على تأمل مشهدنا الثقافي الجديد كجزء من استعادة حقوقنا، المشهد الجديد ليس شاحبا او غائما كا يدعي البعض من أصحاب المتحف، ان مشهد يستعيد لعبة الحياة وشروطها، تصطخب فيه(قبائل جدد) تملك ذات الشفرة وذات الهوس والجموح، وأظن ان إعادة إنتاج ظاهرة قراءته الفاعلة، قراءة الجسد الشعري في لحظته الجديدة، هو الشرط الحيوي الذي ينبغي ان نعمل جميعا عل استنهاضه وإدامته، شرط يرتبط بمسؤوليات وقدرات ومحركات احسبها ستكون علامة على لحظة عراقية جديدة ينبغي ان ندافع عنها بمسؤولية وإرادة فاعلة، وان نزيل عنها بقايا التراب لكي نتوهج فيها ونغامر فيها صوب الحياة التي تستحق منا المزيد من الجمال والكتابة.