2-2
من كان يظن، أن الشخص الذي عاش نكرة حتى تلك اللحظة، كما بدا في الصورة، واحداً من الحشود، أن الشخص هذا وليس غيره سيقود شعبه والمحيطين به إلى الهاوية؟ هل يمكن تخيل أن الرجال الذين صرخوا وهتفوا للحرب العالمية الأولى، سيموتون بقذارة في الأربع سنوات القادمة، وما هو عدد الذين سينجون من الحرب تلك لكي يملأوا من جديد الساحات بعد عشرين عاماً ويهتفوا باسمه عالياً، وهو يدخل فيينا لكي يلحقها بألمانيا، لكي يلحق "الفرع بالأصل".
هو هتلر الذي كان من الممكن أن يموت على جبهات الحرب العالمية الأولى مثل الآخرين، مقتولاً أو مفقوداً دون ملامح داخل حشد "الجماهير"، في الأعمال المبتذلة حيث واظب على تغذية حنقه الذي لا يكلّ، رساماً للوحات سيئة يبيعها على محال تجارية من الدرجة العاشرة متخصصة ببيع الصحون والبوسترات الخاصة بفيينا، حيث كان يسكن غرفاً مؤثثة بشكل بسيط تصلح لإقامة رجال عزاب، يقرأ ما يعثر عليه في قمامة ما تبيعه أكشاك بيع الصحف والمجلات وخاصة تلك القمامة التي تتحدث عن المواضيع الجنسية الغريبة الأطوار وعن "دسائس" اليهود وعن طقوس الكفاح في الحياة وتفوق العرق الألماني.
كل ما هو رخيص ومبتذل، من الدرجة المنحطة لصنف واطئ جداً، كل ما يتغذى ويتراكم من حنق وغضب وكراهية وعدوان، بسبب الحميّة "الوطنية" لطراز من البشر، شرير، أو بسبب حسد لأولئك الذين لديهم شيء ما لا يملكه هو، لا يهم ما يكون، شيء توسوس له نفسه بمصادرته من أحد استحقه، لا يهم ما هو، لأن الرجل ذلك بخصلة الشعر المتدلية والشارب المميز، صاحب الوجه الممصوص، يريد امتلاك كل شيء. صحيح أنه ليس الشخص الوحيد في فرز السم الذي سيسمم الملايين من الكائنات الإنسانية، لكنه الوحيد الذي سيحوز على امتياز اعتراف الآخرين بتأثيره عليهم، ومحاولة التيمم به، وللتعامل مع شخصيته بشغف، مثل حلم، مثل برنامج سياسي للسيطرة القصوى، "رجل المرحلة القوي"، "القائد المقتدر"، الذي تفديه الجماهير بالروح والدم... وغيرها من الألقاب التي والصيحات التي سمعناها بالأمس وما نزال نسمعها اليوم خاصة عندنا في العراق، هل نسيتم الصيحة السائدة هذه: "بالروح...بالدم..نفديك يا هو الجان!".
أنه أمر يدعو للعجب، فكما يحدث في أفلام الرعب، لن يموت الوحش مهما واراه الناس التراب. أتذكر، أنني في المرة الأولى التي رأيت فيها، في برلين، المكان الذي كان ذات يوم بناية مكتبه، مكتب الفوهرر، شعرت بصورة محسوسة بالقرف الذي يثيره فيّ قربه، سحره المؤذي، والذي يزداد عند رؤيتي لكل تجمع للنازيين الجدد، الذين لا يمرّ يوم في ألمانيا، ولا يهجمون أو يحرقون فيه بيتاً للأجانب. لكني، يجب أن أعترف هنا، وبصراحة، أنني وإن كنت أعيش في ألمانيا، إلا أنني هذه الأيام، وبعد ما يزيد على سبعة عقود ونصف من موت رجل الصورة ذاك، الصغير الضائع في الصورة المأخوذة في فيينا، أزداد كل مرة أكثر رعباً واشمئزازاً كلما أرى في التلفزيون صوراً لحشود تهتف باللغة العربية لهذا "القائد" أو ذاك، والذي كان يوماً نكرة وأصبح بضربة قادر رجل الله المختار، نعم، كم أشعر بالاشمئزاز عندما أرى عندنا حشوداً تشبه حشود فيينا تلك، في القاهرة، وفي صنعاء في الخرطوم وفي الرياض، في دمشق وفي بغداد، حشوداً تهتف الهتافات ذاتها، يوحدها الشعار ذاته، "بالروح بالدم نفديك يا هو الجان!!!"، حشود بشر تزأر بحماسة يغذيها الحنق والجهل والقمامة، تهتف بحياة قائدها المنشود، حينها فقط لا أرى غير وجهين عرفتهما، الأول في الصورة، صورة حشد فيننا تلك، والثاني استحوذ كابوساً خيم على حياتي وعلى حياة الملايين، على مدى أكثر من ثلاثة عقود، دخل فيها حتى إلى غرف النوم، أقصد "القائد الضرورة" صدام حسين. نعم، كلما رأيت صور الحشود هذه، كلما استحوذ علي الخوف من عودته دائماً، ورؤية وجهه الكريه يبرز في صورة الحشود تلك، ولا يهم أن يظهر في المرة هذه بمنظر جديد. البذرة المسمومة التي زرعها هتلر تظهر في ألمانيا من حين إلى آخر على شكل نازيين شباب، أما تلك التي زرعها صدام فما زالت تعثر على أيدٍ تغذيها عندنا كل يوم!
صورة زعيم.. البذرة المسمومة
[post-views]
نشر في: 13 مايو, 2014: 09:01 م