صباح الانباري بدأ خليل المعاضيدي 1646 – 1981 مشواره الشعري متأثرا بالشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي الذي كان واحدا من دواوينه في الاقل لا يفارق المعاضيدي في حله وترحاله فهو جليسه في المقهى وانيسه في الليل ورفيقه في التجوال بين ازقة بعقوبة وشوارعها القصيرة الا ان ذلك التأثر والاعجاب سرعان ما تقاطع مع بضعة آراء اختلفت في درجة تقييمها لتجربة البياتي
فافل نجمه ليسطع نجم سعدي يوسف وعلي احمد سعيد ويوسف الخال. لقد تأنى المعاضيدي ، كثيرا قبل نشر اولى قصائده فهو من القلائل الذين ادركوا منذ وقت مبكر مهمة اغناء التجربة وتفرد الصوت الشعري وعندما بدأ النشر شكلت قصائده الاولى منذ البدء ايذانا بينا لمشروع شعري واعد لم تترك له السلطة الغشوم فرصة بلورته ووضعه موضع الانجاز اذ اغتالته قبل ان يتجاوز عامه الخامس والثلاثين. لقد ترك لنا المعاضيدي مجموعة من القصائد المكتملة الجمال والمبهرة الرؤى ولقد اسعفني الحظ فاسقط بين يدي بعضا منها لم اتباطأ في ان اقدم لهن قراءة نقدية آمل ان ترتقي الى مستواهن الفني والجمالي وان تكشف بوساطتهن ابرز ما اتصف به المعاضيدي شاعرا وانسانا ولعل اولى تلك الصفات خجله الطفولي الذي عزز في نفسه الحياء والكتمان فهو لا يصرح بمشاعره الجياشة الا في الشعر . يحب المرأة حبا يستعمر كل كيانه لكنه يخشى البوح بذلك الحب. يمنعه حياؤه منها وتقديسه لها ان يقول فيها شيئا يخدش احساسها المرهف او ينتهك حرمة ملائكيتها الطاهرة. والمعاضيدي على الرغم من شفافيته العجيبة الا ان طبقات من الغموض الكثيف تغلف احيانا تلك الشفافية فتحيله الى مشاعرمغرقة في الغموض واذ يغوص في اغوار نفسه المتوترة ويصعب عليه سبر تلك الاغوار تداهمه كآبة لا تفارقه عدة ايام وليال مشكلة حالة مرضية لاخلاص له منها الا بهروبه نحو القصيدة. والمعاضيدي الرجل يحمل في دخيلته خوفا طفوليا نشأ في داخله وترعرع قصائده وفرض حضوره عليه من داخل تجربته الشعرية حتى وهو يكتب اغنية للطفولة . الـــــشـــعـــــر: (هبطنا ، نبيين نلتف بالماء والعشب) تشكل مفردات البيت الاول من قصيدة المعاضيدي صرخة ذات ايقاع خاص مفتاحا لمغاليق عالمه المغلف بالاسى ووحشة الحزن والموت ، واطلالة من شرفة الشعر على عالم القصيدة ومداليلها المكثفة. (هبطنا نبيين) مفردتان تفصحان عن حالة الهبوط وارتباطه في الذاكرة الجمعية بهبوط آدم وحواء وتضيفان عليه هالة من البراءة والحياء. يكتمل فعل الهبوط بفعل آخر هو التفافهما بالماء والعشب في اشارة ممهدة لبدء حياة جديدة هما روحها مرموزا اليها بالماء وخصبها وثمرها مرموزا اليهما بالعشب . المرأة اذن لا تأخذ شكلا مألوفا في "صرخة" المعاضيدي انها وجه ملكي محفوف بهالة تبلغ في ذهن الشاعر مبلغ القداسة. انها كائن متخيل يهبط من عليائه بخفر ودعة وبراءة مثل ملاك انثوي فيهيم به الشاعر حبا صوفيا خالصا كالماء خصبا مثمرا كالعشب مترفعا عن دناءة عامنا وهائما في فضاءات من الطهر والحياء هذه المرأة دخلت ملكوت المعاضيدي وتربعت على عرش قصائده فلم يعشق امرأة غيرها ولم يعتصم في محراب حبه الا معها ولم يحاور امرأة دونها وربما دفعه هذا الى الابتعاد عنها ماديا والاقتراب من مخدعها ذهنيا فهو شاعر مغتلم ومحكوم بالحياء والصمت "يغادره البرد محترقا بالوجوه النسائية" التي كان يرنو اليها ويصطلى بنارها الابدية واذ يبلغها فانه يبلغ معها طعم الانتهاك فيؤثر ان لا يقترن بها ان لا يلامس دفئها في زمهرير شتاء عمره القصير واكتفى ان يحترق بوجوهها النسائية في ليالي وحشته المستمرة. لقد عانى المعاضيدي مثل مجايليه من الشعراء من اضطرابات نفسية اكدها في محاولة لتغليب جماليات الشاعر الافتراضية على جماليات الواقع المطبوع على المعاضيدي أي انه يصل الى تلك الافتراضات بطريقة تتفاقع فيها تضادية الألفة مع التوحش والجمال مع القبح والهدوء مع العاصفة يقول في القصيدة نفسها أمرا: "يا بحر، فلتغتسل كل دفاتري بالقوارب أو بالعواصف أو بالتماسيح، مجنونة، كالقصيدة." لكنه بعد هذا كله يشعر بالخيبة اذ يجد مغترباته في الواقع اقوى من افتراضات في الشعر فيتفاقم عنده الشعور بالكآبة ويتعاظم اثرها عليه حتى يبلغ عنده مبلغ الحزن ولذا فهو يحذر في نهاية القصيدة كلّ ... "من يفتح البار هذي العشية يلف العصافير مذبوحة". لقد كانت كآبة المعاضيدي مزمنة مثل حزنه وشجونه وتمزقه لكنه على الرغم منها كان يغني للحياة وللطفولة التي نمت في روحه وترعرت في شعره وأثمرت فرحا طفوليا غامرا على الرغم من كونه فرحاً مشوباً بالخوف كما في قصيدة "أغنيتك يا طفلة الماء": "يا زمن الخوف إنني طفلك الفج مبتهجا بالمياه الجديدة"، وبالفقر كما في قصيدة ما بين بعقوبة والنهر صبي جبهوي": "رأيت الذي غسلته الظهيرة ، يلبس دفء المقاهي ، يخبىء ما بين دشداسة الفقر والعشب، اوراقنا" ان خوف المعاضيدي عميق كوحشته ووحدته لذا لم يستطع الفكاك منه حتى وهو يكتب أرق اغانيه واكثرها بهجة ففي قصيدة "اغنيك يا طفلة الماء" يكرر مفردة الخوف ثماني مرات وفي قصيدة "ما بين النهر وبعقوبة صبي جبهوي" يكرر مفردة الفقر اربع مرات ليؤكد بذلك التكرار على توجسه الممتد من نزق الطف
في ذكرى رحيل الشاعر خليل المعاضيدي .. طــــفــــــل فـــــج فــــي زمــــــن الـــخــ
نشر في: 23 نوفمبر, 2009: 05:12 م