يقول نوري الراوي عن نفسه: أنا العصفور الملون الذي أراد منذ بداياته أن يغرد خارج سرب الملونين من الفنانين العراقيين.نوري الراوي، عصفور طار في فضاءات ملونة، محلقا بين طبقاتها، متأملا ومفكرا ومتعلما، كيفية التعبير بالكلمات والألوان ويصوغها نثـرا ولونا،
يقول نوري الراوي عن نفسه: أنا العصفور الملون الذي أراد منذ بداياته أن يغرد خارج سرب الملونين من الفنانين العراقيين.
نوري الراوي، عصفور طار في فضاءات ملونة، محلقا بين طبقاتها، متأملا ومفكرا ومتعلما، كيفية التعبير بالكلمات والألوان ويصوغها نثـرا ولونا، لقد منح عبر الأعوام المتتالية منذ الأربعينات، لعالم الألوان والأحلام التي تنسال إلى قماش (الكانفاس)
ليتحول إلى لوحة أشبه بقصيدة تناجي النفس وترتفع بالروح إلى عوالم متناهية الشفافية، ليصبح الحلم أخيرا المدينة والمزار، المدينة مدينته، راوة، وهي الحلم الشفاف الذي تجسد قبابا وجوامع وبيوتا متجاورة أو واقفة وحدها عند ضفاف النهر أو قرب ناعور.
إن معالم لوحات نوري الراوي تعبر عن روحيته المتناهية في الشفافية، وكأن الألوان تمر على تلك المعالم على استحياء ثم تتوارى قبل أن تكمل دورتها، وهكذا نجد اللون الأبيض مبثوثا هنا وهناك، وقد يمتد ليسربل تقريبا رموز المدينة، التي تحولت مع مرور الأيام إلى ذكرى، تتماهى مع الواقع، تكاد تلتحم معها، ولكن الراوي يرفض ذلك التوحد، لتبقى ذاكرته تحتفظ ببراءة الطفولة، التي تمزج الخيال بالواقع، فالراوي متمسك بذكريات واقع تحول مع الأيام إلى حلم تجملها الألوان، منطلقا من عالمه الداخلي المزخرف، إلى فضاءات اللوحة، جاعلا تطابق الواقع مع الحلم أمرا ممكنا، وإن كان ذلك غير أبدي.
وفي لوحات نوري الراوي نجد معالم شبه ثابتة: البيت الأبيض المتكئ على سلسلة من التلال، أو يبدو أحيانا معلقا ما بين الأرض والسماء، وهناك أيضا تلك الفتاة الجميلة، شعر أسود طويل، عينان واسعتان، جسد ممتلئ وانحناءات مستديرة ناعمة للكتفين والصدر وحمامة بيضاء، وعندما يتأمل تلك المرأة، يتخيل أنه واقف أمام إحدى ربات الجمال، أو آلهة سومرية قامت لتكشف سر خلودها.
يمتلك نوري الراوي، الرسام الذي يسيطر على الفرشاة والألوان، يمتلك أيضا سيطرة على القلم والصفحة البيضاء إمامه، التي سرعان ما تسجل أفكاره، إن كتاباته لها نفس الأسلوب الشفاف أيضا، وأقول الآن لو أن الراوي لم يصبح رساما بارزا أو شاعرا حالما، وهو في الرسم أو الكتابة يتغاضى أحيانا عن قسوة الحياة، ليلجأ إلى أحرفه وألوانه ليقدم لنا عالما آخر، يغلفه حلم قديم.
ويقول الراوي: لو كان الوهم شرطا من شروط الوصول والأساليب التشكيلية إلى جوهر الفن لأصبحت اللحظة الفاصلة ما بين الاثنين والأرض وسيلة للدلالة على معادل عبقري لهما هو الحب.
ولكن ذلك الحلم لم يدم طويلا، إذ أن مدينة القباب والنواعير والجمال لم تبق، إذ زحفت إليها مياه الطوفان وأزالتها عن الوجود.
واختفت تلك المعالم التي تمسك بها الرسام طويلا، ومع الاصطدام بالواقع، تغيرت أفكار نوري، وأحلامه أيضا، وبناء على ذلك نجده يبتعد عن فضاءاته السابقة، والتي يسميها - الحلم الصوفي – إلى فضاءات أخرى تشكيلية تبرز قدرات مضمونة في التحديث والتطوير.
لقد ودع نوري الراوي أخيرا حلمه: البيوت البيضاء المرأة الجميلة، طيور الحمام، والزهرة الحمراء، وكأنه هبط أخيرا إلى الواقع الذي يبدو اليوم قاتما تختلط فيه الأمور وتتداخل مستخدما اللون البنفسجي – الليلكي -،الذي يبث الحزن في النفوس.