إضافة الى سوء الفهم الذي يحمله الكثيرون حول الرسم والرسامين ، فهم لا يكتفون بذلك ، ويذهبون بعيداً في طريقة تصورهم للفن ويدفعون ريبتهم إزاءه الى أقصاها . وهذا يتكون في الغالب بسبب قصور الثقافة التشكيلية والخبرة الجمالية لديهم ، لهذا ينساقون الى عدم الفهم والخلط بين ما يتعلق بتقنيات وأساليب الرسم وعدم فهم المدارس الفنية حتى بالشكل البسيط . هم لا يفرّقون بين الموناليزا وبيكاسو ، ورغم ذلك يمدون أصابعهم باتجاه أنفك وهم يتحدثون عن الفن ويقررون - بكل تعسف - الطريقة التي يجب أن يكون عليها الرسم . لكنهم مع ذلك لا يَخلون أحياناً من بعض الطرافة التي تشفع لهم قليلاً . لقد علق بذاكرتي الكثير من هذه النماذج ، ومنهم ذلك الشاب الذي استعيد صورته كلما مرّ بي موقف من هذا النوع .
فذات صباح بغدادي قمت بركوب تاكسي قاصداً الكرادة من أجل رسم بورتريت لصديقي الشاعر سلام سرحان الذي كان يسكن هناك . كنت أحمل معي لوحة بيضاء كبيرة وحقيبة مليئة بالألوان وأدوات الرسم الأخرى . انتبه السائق الذي كان ممتلئاً ويطلق لحيته الخفيفة الى أدوات الرسم وبعض آثار الألوان الزيتية على ملابسي ، فبادرني بسؤال ( هل أنت رسام ؟ ) فأجبته بنعم وذكرت له أن عملي هو الرسم ، فأخذ يرمقني ويتفحصني كل بضعة لحظات بطرف عينه وكأنه يريد التأكد من شيء ما في خاطره ، وبعد دقائق قليلة فاجئني بسؤالٍ آخر وهو يقود السيارة بيدٍ ويحك لحيته باليد الأخرى ( أذا أنطيك صورتي ، تجيبها فيت؟) فقلت له بأني لا أرسم الصور وأن ممارستي للرسم أقوم بها بطريقة أخرى ، عندها بدأت شكوكه بالظهور حول إمكانياتي الفنية ، فأنتظر بضعة دقائق قبل أن يعاود سؤالي من جديد وهو يدير لي وجهه قليلاً ( زين تكدر ترسم مَنذَر طبيعي مضبوط ؟ ) وهو يقصد هنا منظر طبعاً ، فذكرت له بأني لا أحب الأشجار كثيراً ولا أرسم طبيعة كما هو متصور . عندها ازدادت شكوكه بي كثيراً وبدا كأنه يستعيد في رأسه بعض الأفكار والبحث عن مفتاح يسهل عليّ الأمور ويساعدني في ورطتي هذه رأفة بحالي ، فعاد يسألني وكأنه يريد أن ينهي الموضوع لصالحي ( ما هو رأيك بالزُغرفة ؟ ) وهو يعني طبعاً رأيي بالزخرفة ، فحكيت له بأن ليس لي اهتمام بالزخرفة وهي تهم المصممين أكثر ، في تلك اللحظة بدأت مخاوفه من ضعف إمكانياتي في الرسم تقترب من اليقين ، فقال وهو يتظاهر بتسهيل الأمور أكثر ( زين أنت ترسم على المربعات ؟ ) ويقصد هنا بأني أكبّر الصور عن طريق وضع مربعات عليها وعلى اللوحة البيضاء المراد رسمها لضبط النِسب . فأجبته بدعابة وأنا أحاول أن أُلطّف الجو قليلاً ، قمصاني كلها مربعات لكني لا أرسم بطريقة المربعات كذلك لا أسمع أغاني فاضل رشيد للمربعات ، يعني ، لا أنقل الصور ولا أرسم بطريقة واقعية . فنظر إليّ محتاراً وهو يبحث عن سؤال بسيط يمكن الإجابة عليه بيُسر، وأخذ ينظر الى الجهة الأخرى من الشارع وهو يقلّب الأمور في رأسه من جديد .
وقبل أن نقترب قليلاً من المكان المقصود بادرني بسؤال تمنيت أن يكون هو الأخير له ، وهو يحاول استدراجي الى شيء واضح المعالم ونعرفه كلنا ليساعدني على الخروج من هذا المأزق ، فقال لي وهو يخفف السير قليلاً ( زين ، تكدر ترسم لي صورة الحسناء والوحش؟) وكان هذا المسلسل وقتها ينال شهرة كبيرة في بغداد ، فأوضحت له بأني لا أرسم هذه الأشياء التي تقترب من البوسترات ، عندها أوقف السيارة والتفت إليّ وهو يشير بكلتي يديه الى حقيبة الألوان ويصيح بصوت عالٍ (خرب .... چا أنت شتعرف ترسم ؟!! ).
اذا أنطيك صورتي.. تجيبها فيت؟
[post-views]
نشر في: 16 مايو, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...