على عمود الكهرباء، عند مدخل قرية مهيجران، تقرأ يافطتين لشهيدين جارين شيعي وسني، قتل الأول بنيران داعش او القاعدة، في معارك طائفية، بالقرب من مرقد السيدة زينب(ع) بسوريا، فيما قتل الثاني بمسدس كاتم، وهو يجلس في دكانة صغيرة، يملكها قرب مسكنه بالقرية عقب خروجه من سجن دام لأكثر من سنة بالعراق، وبغض النظر عن الفارق بين المقتلين وأسباب القتل هنا وهناك إلا أن مشهد القتل يبقى واحداً، حيثما نقلّبه، ينتجُ اليتم والترمل والعوز والتوتر ومن ثم الخسران المادي والنفسي وما إلى ذلك من ما يخلفه الرصاص من صدى وخربشات.
ولأن المشهد ملتبس حدَّ انَّ البعض استسهل الموت قائلاً: كان هذا قد زج نفسه في مقاتل طائفية بسوريا، فيما ينبري آخر ليقول : كان هذا مسجوناً، ما أدارنا لعله كان متعاطفاً مع أحداثٍ في الرمادي. بهذه وتلك أصبح الموت يبررُ في العراق، دخل الدم العراقي قائمة الصواب والخطأ، لا بل لنقل صار تجارة كلامية سرعان ما تجد تبريرها في الربح والخسارة، دونما نظرة فاحصة لأب مفجوع أو لأم ثكلى ولولد تيتم باكراً . يقول معلم في مدرسة ابتدائية، كالتي في مهيجران بأن ابنة طه ياسين السبيعي لم تذهب لتمتحن في اليوم الأول الذي قتل فيه المسلحون والدَها، إدارة المدرسة تعاطفت معها فأجّلت الامتحان لليوم الثاني! هل يكفي ذلك لتأخر دمعة في مقتلها؟ ويقول آخر مسترخ على نهر بين النخل: ليس في الموت رهبةً، إنها المبادئ ولم يقل شيئاً عن ما ستفعله بالعلم العراقي ابنةُ الشهيد المحمول من الشام إلى مهيجران بعد فراغ الناس من دفن والدها !!!
منذ أن أدخل صدام حسين العراقيين الحرب مع إيران والدم العراقي يباع رخيصاً في سوق للنخاسة السياسية، فهو صاحب فكرة الدفاع عن العروبة، والقتال نيابة عن التاريخ، ومن ثم فهو صاحب مقولة: العرقي مشروع استشهاد دائم . منذ أكثر من ثلاثين عاماً والجسد العراقي يعرض في أسواق القذارة الطائفية وعلى جنابر التشدد الديني والمذهبي في بغداد والموصل والبصرة والرمادي والحلة وعشرات المدن العراقية الأخرى، لا لشيء إلا لأن الفكرة الأولى ما زالت تجد من يتبضعها دونما سؤال حكيم يحددُ قيمة وعلياء الجسد وأهميته في شغل مساحة ما من الكون هذا.
تطلق الحكومة سراح الذين تحتجزُ بتهم المخبر السري، أو بما لديها من شبهات وساعة تنزع عنهم صفة القتل أو المشاركة في نزاعات الطوائف، وقد ظنوا كل الظن أنهم أصبحوا بمنأى عن الملاحقة، لأن ضبّاط التحقيق أفرجوا عنهم، مبرئينهم مما لحق بهم من التهم ، واصفين حالهم بحال من يعيش في بلاد ديمقراطية، يؤخذ المتهم متهما ويخرج لعدم ثبوت الأدلة، لكنهم سرعان ما يجدون انفسهم بمواجهة الموت ثانية، وهذه المرة عبر الكاتم وفي عقر الدار، وفجأة يجدون أجسادهم مكامن لرصاص لا يتكلم محققه، ومن ثم ليجدوا أبناءهم وبناتهم محلقين حولهم بعيون جامدة، لا تتهم احداً . حتى لكأن الموت متبضعٌ اخرس وقف على دكانتهم لحظة، تسوّق لغده دماً وانصرف، يبحث في أفواهنا، أفواه الكاتبين والجالسين في المأتم، المتحلقين حول مائدة القتل الجماعي فيما بعد عن مبرر نقوله، بعد قراءة سورة الفاتحة وفنجان القهوة، حيث لا يعلق في أذهاننا بعد ذلك سوى صورة الشهيد في اليافطة على عمود الكهرباء لصق صورة شقيقه الشهيد، على عمود الكهرباء ذاته. نحن نبني مقبرة لبعضنا، مع يقيننا بان المقبرة هي المكان الوحيد الذي لا يشيده الإنسان لجسده، هنالك من يشيد مقابرنا قبل أن نُحمل اليها مقيدين .
يقول فلاح الكلمات، العابر الأزلي في المآتم بين النخيل: أنا لا أفكر بسعة ثقب الرصاصة في رأس المقتول، الشهيد في قرية مهيجران أو في الفلوجة، أنا منشغل بأفئدة الجالسين في مآتم العزاءات الواسعة في كل هذا العراق، أولئك الذين لم يحدد القتلةُ بعد حجوم الثقوب في رؤوسهم.