1-2
راسكولينيكوف، الشخصية المثالية لنموذج القاتل والتجسيد القوي لـ"فكرة" الإرادة الخالصة يطيل التفكير في خاتمة رواية الروسي فيودور دوستويفسكي "الجريمة والعقاب"، في حلم له فيه الكثير من النبوءة: في مجتمع ضاعت فيه القواعد الأساسية والروابط التي تربط البشر للتعايش مع بعض ينتشر وباء الجنون. وباء يجتاح بمنطق لا يرحم وحساب بارد قرى ومدن وبلدان بكاملها: "الجميع غاضب وليس هناك أحد يفهم الآخر. كل واحد يعتقد أنه وحده فقط، يملك الحقيقة. لم يعد باستطاعة الناس إصدار الحكم، كما لم يعد بمقدورهم الاتفاق على التمييز بين ما هو شرير وما هو خير؛ بل لم يعد باستطاعتهم معرفة من عليهم الحكم عليه بالبراءة ومن عليهم الحكم عليه بالذنب"، لينتهوا في الأخير بسبب "غضب غير مبرر" إلى قتل بعضهم البعض. "الناس جميعهم والأشياء كلها تدخل في الحطام"، والوباء الذي يبدأ بطوفانه قادماً من الشرق يتقدم "إلى الأمام وإلى الأمام".
ليس راسكولينيكوف فقط، ففي هذه الأيام المجنونة، ومنذ أن بدأ شبح "بن لادن" يطوف أوروبا والغرب جميعاً، بدأت استعادة كل أولئك الذين ألقوا بدلو نبوءاتهم ذات يوم، ابتداءاً من القديس نوتردام وانتهاء بالمقاطع الشعرية التي تصف يوم القيامة لوليم بليك. في هذه الأيام المجنونة، حيث لا يعرف أحد متى يضرب الإرهاب ضربته، ينتصر العرافون والكهنة وضاربو الودع والسحرة، يستحوذون على المشهد، رغم أن هذه الطائفة لا تريد أن تعرف شيئاً عن الإيطالي دانتي الذي حجز لهم ومنذ قرون مكاناً في الجحيم، حيث تحل عليهم اللعنة، رؤوسهم تتطلع للأسفل لكي يراجعوا بصورة دائمة كل ما حدث من قبل وعلاقته بما تكهنوه. تلك هي الصورة التي وصفهم بها دانتي في النشيد العشرين من كتابه الخالد "الجحيم" العقاب الخاص بالمنجمين والكهنة والمتنبئين. عقابهم مرير لدرجة أن دانتي ذاته (صاحب القلب الغليظ، الذي يعي مخاطر المهنة التي يمارسها!) عندما نظر إليهم انخرط بالبكاء.
تحت شعار "الأدب والنبوءة" نظمت الأكاديمية البروتستانتية الألمانية مؤتمراً خاصاً يبحث في موضوعات أعمال الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي ونظرته لأوروبا، مؤتمراً كان مخططاً له منذ شهور طويلة، وكان من الممكن أن ينتهي مثل غيره من المؤتمرات، لولا أن ما حدث من كوارث في السنوات الأخيرة جعله يتحول إلى أحد أهم المؤتمرات الأدبية التي عُقدت في ألمانيا في السنوات الأخيرة. الأسئلة التي صاغها دوستويفسكي وتركها بلا إجابات، قبل أكثر من قرن من الهجمات الإرهابية على نايروبي ونيويورك وواشنطن ومدريد وكازابلانكا وغيرها من الحواضر العالمية، تلك الأسئلة التي ظلت معلقة، هي التي جعلته "معاصراً"، مثلما راحت تكتسب معاني وتحميلات أكثر مصداقية ولتطرح في النهاية سؤالاً مهماً جديداً يتعلق بالأبعاد التكهنية لرواياته، وإذا كانت تلك الأبعاد تلعب دوراً في تمييز حدة التكهن الواعي لمشاكل الحاضر، والنظر بعمق لـ"الملامح الفكرية الحاضرة للتوتر بين الشرق والغرب".
بلا شك أن ما كتبه دوستويفسكي فيما يتعلق في هذا الموضوع يفوق كل ما كتبه كتاب آخرون في الموضوع ذاته، وأن أعماله كلها تحوي هذا الموضع وفي أكثر من مكان. لكن الإغراء الذي تطرحه معالجات دوستويفسكي لموضوعة الإرهاب (بكل أنواعه) والعقاب، للباحثين للاستشهاد بها هي ليست قليلة، خاصة في السنوات الأخيرة، وكان من الممكن أن تُفسد المؤتمر في حالة طرحها ككيليشهيات منتهٍ منها، لولا نوعية المحاضرات التي عند رجوعها إلى دوستويفسكي اعتمدت بصورة ملفتة للنظر على أكثر المقاطع خفية في أعماله، وكأنها اتخذت من الحدث "الإرهابي" المعاصر فرصة لإضاءة تلك النقاط التي ربما ما تزال معتمة في أعماله، وليس العكس. المقاطع "المعتمة" تلك هي من القوة بحيث أنها لا تحتاج إلى التعليق أحياناً. بهذه الصورة فُتح المجال على بعد، كطريقة تجريبية مسبقة من أجل إضفاء تفكير عميق ضروري لما يصفه المختصون أو دوستويفسكي ذاته بالـ" الشيطاني الذي لا يقبل الخضوع للسيطرة" في العالم وفي الإنسان، ومع ذلك من السهل التعرف عليه في العالم الخارجي ـ في أعمال دوستويفسكي يحضر بقوة شديدة ـ دون الحاجة لمعرفة خطاب المواجهة الثنائي المشحون دينياً، القادم من مملكتين متضادتين، كما في السنوات الأخيرة والذي هو في تصاعد.
يتبع
دوستويفسكي والاحتراق على جبهتين
[post-views]
نشر في: 20 مايو, 2014: 09:01 م