2-2
من أجل إغناء الكليشهات المعروفة "الشرق" و "الغرب" بالمادة التاريخية، الكليشهات التي نشأ الصراع عنها في القرون الماضية، وبعيداً عن مجريات الوضع الجيوغرافي المتعارف عليها، أعاد المؤرخ امانويل غايسمان تشكيل حقل التوتر الفكري من "اللاتينية" وحتى "الأرثودوكسية"، الذي منذ "انحلال العصور الوسطى لم يقسِّم أوروبا فقط، إنما جرّ نفسه ووصل حتى وسط روسيا ذاتها". فبالذات "من العلاقة مع قرب أو بعد كل منطقة منفصلة لوحدها عن مراكز الحضارة المناسبة لها نشأ تاريخها أيضاً"، ومقابل العالم الباقي الذي سيطرت عليه الأوتوقراطية والتيوقراطية مسبقاً، جسد "الطراز الغربي الذي نظم نفسه ذاتها من الأسفل حتى الأعلى، كمجتمع مدني استثناءً نادراً".
في هذه المنطقة التاريخية الكبيرة منح الوسط الممزق إلى جهتين في الوقت نفسه مكاناً كبيراً للأنبياء، لأنهم هم البشر وليس غيرهم "الذين يُحرقون على الجبهتين". هكذا شخصتهم المؤرخة الأدبية ماريا ديبير، التي تتساءل عن "النبوءة في الحداثة". في العالم العلماني تسقط الإشعاعات الإلهية، التي هي بمثابة "وضع مفاجئ للتكهن" يشمل الأنبياء ويمنحهم ملامح الشهداء، تسقط على الأدب وتتحول فيه إلى "صور شعاعية". لكن هذا لا يحجب بالضرورة عن الكاتب بعض "البقع العمياء"، كما في حالة دوستويفسكي مثلاً "التي تعبر عن نفسها بأشكال مرعبة لصيحات شيفونية تربط رسالة التضحية غير المشروطة، التي يطالب النبي بتسديد دينها بالعمل الأدبي وتطبق كماشتها عليه بصورة مطلقة".
وفي المقام الأول تظل رواية "الشياطين" لدوستويفسكي، أكثر أعماله تجسيداً لنظرته القلقة وأساسها الأخلاقي. حسب تحليل عالمة الأدب السلافية سلافيستين داغمار فقد رسم دوستويفسكي في هذه الرواية الملامح الواضحة لشخصية المقاتل العدمي، الإرهابي المستعد للتضحية بنفسه بكل ما يحمله الوضع من مخاطر "الذي يريد أن يملأ مكان الله الفارغ في العالم والمجبول على فكرة ثابتة واحدة فقط". دوستويفسكي يجعل الكفاح ضد قوى القيامة يدور في النهاية في مجال الفرد "الآثم والممزق"، والذي رغم ذلك "يساعد نفسه على جعل الأشياء تنجلي أمامنا". الأمر الذي جعل الرواية هذه بالذات لا تفقد بما يخص تحليلها كعمل للقوى الاستبدادية، لم تفقد معاصرتها ونبوءتها رغم مرور أكثر من مائة عام على صدورها.
المجال "الإرهابي" للكاتب هو رغم ذلك يتجسد في "مساعي الشكل ضد نفسه ذاتها". عن طريق هذه الرسالة وبالاعتماد على ميشيل فوكو وإشكالياته الخاصة بالحداثة حلل المؤرخ كلاوس ستيتد روايات الكاتب الروسي، وحسب الورقة التي قدمها، فإن ما كتبه دوستويفسكي يصلح حتى يومنا هذا وهو جزء من جمالية الحداثة دون قيد أو شرط.
وفق المنهج البنيوي ذاته الذي يبحث بالشكل أكثر من أي شيء آخر، والذي يسمح أكثر من غيره بتفسير العمل الأدبي لدوستويفسكي وتحميله تخريجات مختلفة، جاءت مساهمة الكاتب كريس رومان، عندما قدم قراءة مقارنة تثير الانتباه بين "راسكولنيكوف" ـ كما هو معنون بصورة شكلية عنوان "الجريمة والعقاب" ـ ورواية فرانتز كافكا "المحكمة"، ليثبت أن المقارنة الدقيقة بين المخطوطة المكتوبة بخط اليد للمحكمة لكافكا وبين الترجمة المنشورة لرواية دوستويفسكي التي قرأها بزمن قصير قبل ذلك، "تسلط الضوء على سلسلة مدهشة تقترب من صور معكوسة من الاقتباسات والتقاربات القريبة"، لدرجة أن السؤال القديم: أين يكمن ذنب جوزيف ، يُمكن الإجابة عليه بالشكل التالي: "ذنبه كان الأدب"، الذي كان حسب الباحث "هو أيضاً جريمة دوستويفسكي وعقابه".
بشكل عام، وهذا ما اتفقت جميع المساهمات عليه تقريباً، أن شخصيات دوستويفسكي تظل أكثر الشخصيات الأدبية علاقة بالحاضر، وحتى الشخصيات الأخرى الفريدة بتصوراتها ونظراتها العدمية للعالم، تلك التي عرفناها في أعمال أدبية لاحقة على دوستويفسكي، سارت على خطى شخصياته ذاتها. يظل السؤال الأكثر حضوراً الآن والذي اكتفى المؤتمرون بطرحه وتركوا الإجابة عليه مفتوحة هو: ترى ماذا سيكتب دوستويفسكي لو عاش في أيامنا هذه؟ هل ستحترق شخوصه على جبهتين فقط، في زمن تعددت جبهاته وتعمق تمزقه؟
دوستويفسكي والاحتراق على جبهتين
[post-views]
نشر في: 27 مايو, 2014: 09:01 م