تدخل سيارة عسكرية تحمل نعشاً ملفوفا بالعلم العراقي ويترجل منها مسلحون من حزب ما ، مسلحون بثياب مرقطة وأسلحة كثيرة، ينتشرون داخل أزقة ضيقة، ثم يصطف رتل سيارات طويل داخل قرية أقصى الجنوب، فيُهرع أبناء طائفة ما لائذين ببعضهم، يذهب هذا باتجاه منزله وينأى ذاك داخل النخل والكل مرعوب خائف، فقد سبق لمشهد مثل هذا أن أنتج اختفاء البعض منهم، الوجوه صفر والأرجل تصطك والشفاه ترتجف . لا، لم يكن المقصود احداً منهم فقد توقفت السيارة أمام المسجد التابع لطائفة اخرى وأقيم العزاء ورفرفت البيارق وعلى مدار الأيام الثلاثة. جاء معزون وخرج معزون آخرون بينهم من لم نعرفهم، قدموا من اماكن بعيدة، من خارج الحدود ربما .هنالك شيء ما يحدث في المشهد.
في مكان آخر من قرية أخرى تدخل سيارة دفع رباعي سوداء يهبط منها مصورون بكاميرات حديثة، فريق تلفزيوني يصور ريبورتاجاً صحفياً عن حياة شاعر ما، قرأ الكثير من الكتب، وكتب العشرات من القصائد التي تحدثت عن الحب والحياة، والكرم قبل أن يعصر في الدنان. القناة تكرم الأديب الذي ناهز الستين عاماً، وحين يصير الفريق داخل المشهد الحاضر المستمر مع الشاعر الذي بدأ بالكلام، يتداخل الوقائعي اليومي بالتاريخي، فنسمع صهيل خيول وصليل سيوف وقعقة سلاح فيسقط كثيرون داخل عين الكاميرا التي تحركت عريضاً بين البساتين والأنهار.
كان الموفق بالله العباسي وابنه محمد بجيشهم الجرار يحرقون قوارب العبيد، يتعقبون صاحب الزنج علي بن محمد داخل قريته المختارة، أقصى النخل وأبعد في السباخ، ثم يشير المخرج إلى المصورين أن أوقفوا التصوير . كان الجنود في بغداد يعتقلون الشقيق الاكبر للمصور الثالث، ها قد صوبوا بنادقهم الى صدره، وقد أُخرجَ من بيته الى أحد المعسكرات، يطمئنه زملاؤه بأن شيئاً مخيفاً لن يحدث، الجيش أفضل من الداخلية والشؤون، سيفرجون عنه، اطمئن، لا تقلق .
يقول عامل في متنزه للأزهار بأن الذي أُنزل من السيارة قرب المسجد ملفوفاً بالعلم العراقي صديقي، وإن قنّاصاً في البريّة الواسعة بين المدن المتباعدة هناك استهدفه مع زملاء له، وهم في طريق إلى جهة غير معلومة، ويقول شيعيٌّ خائف من أهل بغداد، كان حتى اللحظة يشترك في حروب مضت عليها سنوات، حروب لا تشبه الحروب التي كنا جنوداً فيها قبل 1400 سنة، هي خليط من الوطنية والطائفية والتجارية. يقول بأنه يحب أهل السنّة، فهم جيرانه وأصدقاؤه وأحبته وهو صادق بكل تأكيد. فيما يقول سنيٌّ قدم توا من الجنوب، وهو خائف أيضاً بأن أمه شيعية، وذكر عشيرتها، لكن المشهد ظل يلتبسُ أكثر . من يعلم قد تلتقي بندقية هذا ببندقية ذاك، وقد ينفجر رصاص لا يحسن احدُهما إيقافه. وفي لحظة صلح عابرة يشير المخرج إلى المصورين ان لا بد من إعادة المشهد، فقد دخل صوت المؤذن في المسجد القريب مع صوت الشاعر والكادر والنساء في الشارع، مع جلبة المشيعين، مع خطى الهاربين من العسكر الى البساتين، مع صوت امِّ المصور الثالث التي ظلت تنادي على ابنها خلف عربة الجيش المسرعة .
تتزحزح حجارة في سياج الحديقة الكبيرة، داخل بستان الوادي الفسيح، في البلاد التي يسميها الاركيولوجيون بالميزوبوتيميا، البلاد التي بين النهرين العظيمين، البلاد التي بين سيفين بتعبير سعدي يوسف فنسمع عشتار وهي تندب عشيقها المعظم الملك جلجامش وهو ميت مسجّىً أمامها. نسمع زينب وهي تبكي شقيقها الحسين المقتول على شاطئ الفرات، نسمع النساء الموصليات وهن يجرشن الحنطة باكيات شاكيات جيش المغول وحصار نادر شاه، نسمع نساء البصرة وهن يندبن آباءهن وأبناءهن الذين أخذهم الجيش العثماني جنوداً على الساحل العماني وبلاد القوقاز . نسمع ونرى ونصغي علَّ ملكاً عابراً يخلّص البلاد مما بها من آلام منذ أن مدَّ الله الأرض منذ ان بسط السماء.
الكاميرا محمولة بين البساتين
[post-views]
نشر في: 27 مايو, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...