لا نريد الفن يبتعد كثيراً عن المعرفة. أيضاً لا نريده يبتعد كثيراً عن الايديولوجيا. فراغُه منهما يعني ان يكون فارغاً من محتواه. الوسط الجمالي أيضاً لن يعود جمالياً. بماذا يكون جمالياً؟ أيمكن ان يوجد جمال من غير معرفة ومن غير فكر؟ هو ليس مذاقات حسية. ا
لا نريد الفن يبتعد كثيراً عن المعرفة. أيضاً لا نريده يبتعد كثيراً عن الايديولوجيا. فراغُه منهما يعني ان يكون فارغاً من محتواه. الوسط الجمالي أيضاً لن يعود جمالياً. بماذا يكون جمالياً؟ أيمكن ان يوجد جمال من غير معرفة ومن غير فكر؟ هو ليس مذاقات حسية. الدعوة لتحرير الفن من الهيمنة دعوة خيّرة لكن ان نحرره من قوته الإنسانية الفاعلة أمر آخر. الحياة وراء أي فن، والحياة فيه.
مهارتنا في الصياغة، في التقنية، في الكشف، دليل تقدمنا. هذا التقدم لايُنتج من "مادتي" المعرفة والايديولوجية وهما ملكيتان إنسانيتان وينتجان واقعاً إنسانياً آخر جميلاً يبهجنا. هذه البهجة تتأتى من الرؤية والسماع وفي الاقتراب الممتع من المعنى.
قد يرد سؤال، إذا كان الفن تكويناً تاريخياً، اي ضمن النْسل المتوافر للخطاب (وهنا يكون الخطاب فنياً او ادبياً) المهم اين مكان الواقع منه؟ أظن ان واقعية التاريخ لا تمسّنا الا بقدر انسراب واقعنا، نحن لنا امتدادنا الحي والدائم في الماضي ونحن على حوار دائم، يومي وآنيّ، مع المستقبل. ونحن نتحرك تصوراً وتنفيذاً باتجاه ذلك المستقبل.
هذا يعني تقدماً!
كما ان ذوبان المكسب الثقافي في التجربة، في العيش وفي الكتابة، او الانجاز الفني، يعني حضوراً لزمن الانجاز. فما يحدد زمن الكتابة او العمل الفني هو الفكر الذي وراءهما. لا يمكن لكتابة تتغذى من فكر قديم، وان كُتِبتْ اليوم، ان تكون جديدة او معاصرة.
ثمة ملاحظة تستوجب الانتباه كي لا يجرفنا الاطلاق، تلك هي ليس شرطاً ان تكون كل مفردات الكتابة عصرية. المهم هو الاتجاه العام لحركة النص المُنْتَج. أعني معايشة الحاضر والاتجاه الى المستقبل.
أقدّر أيضاً، ان اللغة أحياناً تسحب النص الى زمنها. قد لا يكون ذلك كلياً، ولكن بعضاً مهماً من ذلك يحصل. النص المسجوع ، مثلاً، يحيلك الى زمن سبق، كما الشعر العمودي، كما حواشي اللغة. هذه تُحيي صلاتٍ مضت. الفكر الجديد مُقوِّمٌ جيد يحاول دفع القديم بقوة اذا حضر، أسلوباً او منحى.
الحال الفكري القَلِق سببٌ من أسباب الأزمنة المختلطة في العمل الكتابي او الفني. كما ان العصرانية قد تسبّب تناقضات في الأشكال والأفكار. هناك دائما اشتباك قوى ومحاولة للتقدم. وهنا يتجلى الكاتب الباسل الذي ينتصر على المعوّق في طريق تقدمه. وملاحقة الاسئلة الخاصة بالقيم الاساسية المعاصرة المستجدّة والمتوقَّعة، ليكون العمل الفني او الادبي، في مدى التقدم. ولايتحقق ذلك ان لم نمتلك اساساً روح التقدم، روح الحركة الواثقة للتجاوز الى ما صرنا نستشرفه، الى ما نؤمن بوجوده القادم وجمال الوصول اليه. بقي ان نقول: اننا نستطيع ان نحلم منفردين، ان نرى منفردين ولكننا لا نصل الا ومعنا ذلك الجمع الإنساني الذي لا يُسمَحُ له بالدخول الى العالم الجديد. نعمل منفردين ونشترك في الوصول.
ان محاولة ربط هذه الرؤية بمسح التمايزات، محاولة لا تستند الى علم ولاتستند الى تجربة "لان صيغاً اجتماعية مختلفة تنتج صيغ انتاج مختلفة تشترك جميعاً في الحراك الجمعي، او المسيرة، قصدَ المستقبل او الرؤيا. وكما ترون غيّرت كلمة رؤيا هنا دلالتها وانتماءها سحبناها نحن الى العصر لتكون اكثر انتماء لنا وغادرت ايحاءها الصوفي..)
ما ينفعنا هنا هو ان عمليات التحولات في الأساليب الأدبية والفنية هي عمليات صنع معايير جديدة. ولأن هذه التحولات غير منفصلة عن التحولات الاجتماعية، فهي مظهر نضالي للتقدم الإنساني والتقدم الإنساني يعمل بوقود فكري. بايديولوجيا.
ولهذا، فنحن مهما انحزنا الى عموميات النخب الثقافية من اطلاق ونفي وإلغاء ومحاولة رفع الشأن لأي من التصورات الفكرية على حساب الجماهيري العام، سنعود ونقول" الثقافة تعبير ايديولوجي" وما ينطبق على الثقافة مجملاً ينطبق على الفنون والآداب كلاً على انفراد.
ليس في هذا ما يقلّل من الشأن الثقافي او من نخبوية الثقافة. على العكس، يمنحها مضموناً فكرياً رؤيوياً ويقيها من الانفصال عن الحيوية الاجتماعية ونسغ التاريخ البشري في دائرتها او في فضائها. هو يجعل منها انجازاً ونتاجاً إنسانيين وخبرة بشرية اكثر رصانة، على خلاف تركها سائبة. وان انتسابها للذات لايتقاطع مع انتسابها للجماعة الإنسانية "فالأفراد، من أي موقع اجتماعي، يستطيعون خلق معانيهم وهم يعيشون او يعملون وهم يفكرون!
هنا لا يصدمنا قول "أكسندال": يمكن اعتبار الرسم مادة من صلب التاريخ الاجتماعي بدلاً من اعتباره موضوعاً للتجريد النظري.." لكن هذا يمكن قوله ايضاً عن الأدب وعن المسرح والسينما والموسيقى بانها واحدية المصدر. ومصدريتها الواحدة لا تنفي اختلاف اتجاهات التطور الآنية، وانها تحرر أي فن من هذه الفنون من هيمنة الفن الآخر، مثلما لا تنفي اختلاف تطوّرات الافراد بحسب مدى معطيات العصر والقوة الدافعة لهذه الاتجاهات في عصرها.
في مراحل معينة، لا تبدو المرجعيات مكشوفة، حتى لتبدو الابداعات الفنية ليست من معطيات عصرنا. لكن التحليل السوسيولوجي يكشف بسهولة انتمائية العمل. وهنا تصبح ظاهرة تعدد القراءات وتعدد الاكتشافات وتعدد المرجعيات ظاهرة للنشاط الاجتماعي وحيوية المعرفة.
أظننا في العقود الأخيرة انتقلنا من موضوعة "الفن والمجتمع" الى "موضوعة الفن والحضارة الإنسانية "بسبب من التواصل الاجتماعي الواسع والاتجاه الذي ما عاد يَشَكّ فيه، نحو ثقافة المجتمع الإنساني الواسع وحضارته المشتركة. ان هذا مكسب هائل الأهمية والمعنى يمنح الإنسان حيثما يكون عالماً اوسع وأقفاً اكبر وحضوراً في الحياة الواسعة والمزدحمة على الكوكب! وهذا سيكون اسهاماً عظيماً في نقل الإنسان من الانتماءات الصغيرة الى الانتماء الإنساني الواسع: مجد آخر يتكون!