TOP

جريدة المدى > عام > محمد برادة..التاريخ بوصفه سرداً.. من الضوضاء الى السُّكات

محمد برادة..التاريخ بوصفه سرداً.. من الضوضاء الى السُّكات

نشر في: 1 يونيو, 2014: 09:01 م

التعالق مابين التاريخ والسرد ظل مثارا  للعديد من الاسئلة والاشكالات الثقافية، اذ تعكس هذه الاشكالات النظرة الخلافية حول إعادة صياغة الأحداث والوقائع ومستوى قراءتها، وحول الآليات الاجرائية التي تتم بها معالجة تلك الأحداث سرديا، حيثما يكون السرد ص

التعالق مابين التاريخ والسرد ظل مثارا  للعديد من الاسئلة والاشكالات الثقافية، اذ تعكس هذه الاشكالات النظرة الخلافية حول إعادة صياغة الأحداث والوقائع ومستوى قراءتها، وحول الآليات الاجرائية التي تتم بها معالجة تلك الأحداث سرديا، حيثما يكون السرد صياغة وتخيلا، وحيثما يكون  اصطناعا لانساق تشتبك فيها المتخيلات مع الوقائع، وبما يتمثل عبر الانوجاد في (هوية) افتراضية لهذا السرد، تلك التي  اسبغ عليها( بول ريكور) توصيفات اشباعية، وتصورات تحفيزية للمخيلة، اذ تتمثل عبر وظائف حكائية، وعبر تموضعات تغني بوجودها صياغة الكثير من الرؤى السردية ازاء التاريخ والشخصيات والأمكنة، بوصفها الوحدات الاساسية- لسانية وتعبيرية- في المبنى السردي وفي المتن الوقائعي..
رواية الروائي المغربي محمد برادة(بعيدا عن الضوضاء..قريبا من السُكات) الصادرة حديثا عن دار الآداب البيروتية/2014 تضعنا في صلب هذه الإشكالية، وفي مواجهة ازمة اعادة (تدوين) التاريخ السياسي والاجتماعي والتعرف على انساقه المضمرة من خلال السرد، وعبر الكيفية التي ينظر من خلال مرقابها الروائي الى العلاقة مابين التاريخ بثقل احداثه ووقائعه وصراعاته، وبين السرد بوصفه(لعبة مقترحة) لقراءة هذا التاريخ، وإخضاع الكثير من سرائره الى موجهات القراءة، واحيانا الى ما يساكنها من(فائض المعنى) كما يسميه ريكور، حيث التأويل والقصدية، وحيث سحب التاريخ الى عين الكاميرا، او الى نقطة التبئير الظاهراتية، اذ تتكشف مستويات المعنى الظاهرة والعميقة، واذ تكون المحاولة القصدية للسرد كامنة في إخضاع التاريخ بوصفه خطابا الى سردية المراقبة او اللذة..
تعمد هذه الرواية الى استخدام تقنية (الميتاسرد) والى صنع ما يشبه المجاورة النصية، او النصية المتداخلة، تلك التي تضع التاريخ والشخصية والحدث تحت موجهات نص اخر يكتبه الراوي الداخلي، او المدون، اذ يكون هذا النص الثانوي هو النص المولد، وهو النص المتخيل الذي يكتبه الراوي، اذ يقوم من خلاله باستكناه ذاتوي للحمولات الدلالية للوقائع والشخصيات والتاريخ والعلاقة مع الآخر او مع الذات..
تبدأ الرواية من فكرة قيام المؤرخ الرحماني بالاستعداد لتدوين كتاب عن تاريخ المغرب خلال خمسين سنة- كما يحددها الروائي- والمحصورة بين زمن المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، وبين زمن الاستقلال من الاستعمار، وهذه المرحلة الغامضة والملتبسة تتطلب الكثير من الوثائق والشهادات، مثلما تحتاج الى تقصّ في الأحداث والوقائع والمعلومات، فضلا عن كشف الكثير من سرائر الشخصيات الصانعة للأحداث، والتعرف على عوالمها وأدوارها السرية في الصراع وفي التحولات القيمية والنفسية وفي تشكيل ملامح التاريخ الحديث للمغرب..
رحلة الرحماني في سيرة التدوين تتطلب وجود الشخصية الفاعلة والساندة، وهو تماه مع اشتغالات فلاديمير بروب في وجهة نظره لتنظيم مركّب الوظيفة الحكائية، تلك التي تؤمّن وجود(المنظومة الخفية) كما يسميها رولات بارت، في كتابة(النص الجديد) او(الكتاب الجديد)بوصفه النص المحكي، والنص الذي يمثل جوهر الهوية السردية للمادة المسرودة.. 
الشخصية الفاعلة، تمثلها شخصية(الراجي) المثقف المغربي الشاب، والعاطل عن العمل، لكنه العارف في شؤون التاريخ وتحولاته ومفارقاته، فهو خريج(شعبة التاريخ) والشغوف بالبحث في عوالمه وخفاياه، اذ تتحول شخصيته العنصر المولد لسرديات الاحداث، وللاستغوار في جوانياتها، عبر قيامه بتتبع المعلومات التي تخص تاريخ المغرب، والتي تشبع غريزته العميقة في كتابة مدونة مجاورة للتاريخ الذي يتخيله..
ينزاح الراجي عن وظيفة المؤرخ الى وظيفة الروائي، اذ يعمد عبر توظيف مخيلته الشغوفة باقتراح كتابة نص(مضاد) كبديل عن(المادة السياقية) التاريخية التي أرادها الرحماني. هذا النص، هو النص الروائي الذي يمثل جوهر الميتاسرد في الرواية، قد يكون قريبا مما يقترحه الراجي عن التاريخ، اذ يحشده بشخصيات تروي وجهات نظرها عن الوقائع المغربية بكل صراعاتها وتحولاتها واغتراباتها وتمزقها بين ثقافين ولغتين وهويتين، لكنه في الجوهر تمثل محنة الوعي الاغترابي للروائي إزاء صدمة هذه الوقائع، حيث يبدو انغماره في كتابة السردية الروائية وكأنه نوع من التطهير، الذي يقوم على إزاحة التاريخ عبر الاستحواذ على شفراته السرية.
وظيفة الراجي في هذه الإزاحة، تقوم بدءا على جمع المعلومات، تلك التي تتحول الى وظيفة مفارقة او متداخلة مع مدونة الكتاب الذي يريده(الرحماني) اذ يكتب روايته بوصفها مخطوطته الشخصية، رؤيته، حكايته، والتي تتلبس بقناع سرد(رواية) كمحاولة لتدوين تاريخ متخيل، يقوم على كشوفات منظور الجيل الجديد للاحداث والتحولات، مثلما يقوم بنائيا على وجود عناصر السرد المقابل للسياق التاريخي، حيث الزمان والمكان والشخصيات، وحيث العلاقات المركبة في البنية الروائية، والقائمة على استنطاق الأحداث والوقائع عبر تفجير عوالم الشخصيات..
عنوان مخطوطة رواية الراجي، هو ذاته العنوان الرئيسي للرواية وعتبتها الموجهة والموحية بسيمياء التحوّل، حيث شخصياتها الثلاث تعيش كل اغترابات هذا التحول ف( المحامي توفيق الصادقي 1931المولود، يمثل الجيل المحافظ/ البرجوازي، لكنه التواق الى الحرية والديمقراطية، تأثرا بنمط الحياة الفرنسية، مثلما يمثل المحامي فالح الحمزاوي، والطبيبة النفسية نبيهة سمعان 1956) الجيل الاكثر تمردا، اذ هو جيل النضال والايديولوجيا والتحزب، والانشداد الى التمرد والحرية بوصفها الايروسي والنفسي والانفلات عن الواقع، والنفور عن القيم النمطية للنضال ضد الاستعمار..
هذه الشخصيات تمثل الزمن السيري للمخطوطة المقترحة، كما انها تمثل المسار التصاعدي للزمن التاريخي والزمن الوطني، لكنها ايضا تمثل الزمن النفسي والصراع الذي تعيش تحولاته هذه الشخصيات، حتى يبدو هذا السياق وكأنه ذات الهاجس الذي ظل يعيش قلقه برادة وهو يكتب اغلب روايته( الضوء الهارب، مثل صيف يتكرر، حيوات متجاورة) تلك التي حاولت ان تلامس المكان والهوية والشخصية المغربية خلال الخمسين الاخيرة من حياة المغرب.
سيرة هذه الشخصيات هي ذاتها سيرة أجيال، وتحولات، واغتربات، والتي تبدو قريبة من فهم الروائي للتاريخ، اذ هو تاريخ المعيش القلق والتفاصيل والخيبات والصراعات والخذلان والرغبات، والذي ترهص به الرواية بدءا، من تتبع عوالم شخصياتها في الطفولة مع العائلة، وعبر مقاربة التحولات النفسية والاجتماعية والثورية خلال ايام الشباب، وكذلك عبر استعادة صور شاحبة ورومانسية للصراع مع الاستعمار عبر مفهوم الثورة والكفاح المسلح، وعبر النضال الحزبي والاعتقال، فضلا عن جعلها مجاله التبئيري في تكثيف وجهة النظر الى أزمة الشخصية، بوصفها الشخصية المتحولة، والشخصية التي تتمثل الى كل ما يتساقط من(هاجسه السردي) المتعالق مع موضوعات المرأة، والحرية، والجسد، واللذة، ومع موضوعات(الحماية ثورة والالفرنسية) والسلطة، وسقوط اليسار، بوصفها مركبا رمزيا لإشكالات وعيه(الشقي) إزاء موضوعات الهوية المستلبة، وإزاء المكان الاستعماري واللذوي والاغترابي اللغوي والنفسي..
يضع الراجي بوصفه الكاتب السري للرواية، او صاحب المتن(الميتاسردي) سيرة هذه الشخصيات في شبكة من الانساق المفترضة، من خلال التعرّف على مغامرتها الحكائية، واستكناه عوالمها وتفاعلها مع الأحداث، وتأثيرات ذلك على مصائرها وافكارها، حيث تتحول هذه المخطوطة الى روايته الشخصية، او رؤيته الشخصية للتاريخ الضد، فهو، ورغم قيامه بجمع المعلومات والوثائق، واجراء العديد من الحوارات مع الثوار القدامى من مناضلي الجهاد والثورة والمقاومين، الاّ ان هاجسه الشخصي العميق والمضمر كان يقربه من تدوين رؤيته كمثقف مستلب للتاريخ، ولحكايات الثورة والمقاومة والجهاد، اذ يبدو المبنى التعويضي الحكائي، هو المقابل التعويضي للمتن التاريخي، والذي يعني انتظامه في نوع من التزامنية، تلك التي تخص رؤيته غير التعاقبية الأفقية للتاريخ، والتي يستنطق من خلالها الوقائع، والشخصيات، اذ يعمد الى انفتاح فاعليتها السردية، عبر وضعها كمركز بؤري ينظم مركّب المباني السردية، ليس بوصفها وحدات يتجاور فيها التاريخ مع المتخيل حسب، بل في تشكيلها كسلسلة من العلامات التي يعبر من خلالها الروائي عن شكوكه بالكثير من مدونات التاريخ، بما فيه تاريخ الثورة، وتاريخ السلطة، وتاريخ اليسار المجهض، وهو مايستدعي نوعا من فعل الاستعادة والتطهير، فضلا عن وظيفة القراءة بوصفها سياقا توليديا، حيث تكون- هذه القراءة- مجالا باثا، وباعثا على استكناه(المسكوت عنه) وباتجاه ان يكون السرد/ نصا في الإحالة، بوصفه خطابا يتسع، وينمو كفاعل توليدي ذي علاقات حية، ويزود الوحدات السردية بطاقة رمزية تسهم في تخليق الهوية السردية للنص وللتاريخ في سياقه التوليدي..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

مقالات ذات صلة

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو
عام

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو

علي بدرفي مدينة تتلألأ أنوارها كما لو أنها ترفض النوم، وفي زمن حيث كانت النجومية فيها تعني الخلود، ولدت واحدة من أغرب وأعنف قصص الحب التي عرفتها هوليوود. هناك، في المكاتب الفاخرة واستوديوهات السينما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram