(رأس القرية) مكان الطفولة التي كبرت على عجل في قلب بغداد. أعرفها بيتاً بيتاً، من شارع الجمهورية حتى شارع الرشيد. عبر (عقد النصارى). العقد الرابط بين شارع الجمهورية وشارع الرشيد. يسلكه الصبي في الطريق إلى العمل في مكتب تجاري للأخوين (عبداللطيف جهاد وأخيه) كما مكتوب خطأً على الباب في لوح نحاسي بالخط الفارسي الوقح، لكن المنحني على نفسه بجدارة.
أقطع (عقد النصارى)، يومياً، من شارع (الجمهورية) في طريقي إلى الشورجة مثقلاً بأحلام حائرة وشبق بلا مرجع وأغنيات لا يسمعها احد.
امرأة مسيحية – على وفق ملامحها وسفورها وانعكاس بيئة (العقد) على هويتها - تجاوزتني بخطى سريعة وهي ترفل بدشداشة من الجرسيه (دشداشة بيت) تكشف أكثر مما تستر. أول ما لفت انتباهي فيها، أنا الشبق الذي بلا مرجع، هو عجيزتها الفائضة عن حاجتي الصغيرة.
كانت البيوت تحتمي ببعضها بعضاً من غزو وشيك وإلا لما تقاربت نوافذها إلى هذا الحد. أبوابها تستدر العطف من أبوابها فلا تجد مسوّغاَ للمسافة بين الجلد والعظم. جسد عراقي مسيحي ومسلم يختلط فيه الحب والخوف وربما الكراهية.
لم أشأ أن أتحرش بالمرأة تلك فهي أبعد من طاقتي وأصغر من حلمي وأكبر من امرأة مسيحية جميلة على وشك عقدها: عقد النصارى.
الحنين إلى المكان الأول ليس نقطة ضعف الفكرة ولا يودي بالنص، كما يتوهم البعض، إنما هو اقتباس اللحظة الأولى لتشكيل العاطفة الجديدة.. عندما يضيق الحاضر بتكويناته الغامضة ويضغط (بشكل ملح) على الكلمات. ثمة من قال إن الحنين عاطفة ريفية!
المكان نشكله ويشكلنا.
المكان لا نشكله ولا يشكلنا.
المكان وجود الزمن في وقته المتغير، العصيب، المأمول، الغائب، الحاضر في ذاكرة الشخص.
أنا، الآن، في ساحة (الغريري) وكان يمكن أن أختصر الجادة إلى اليمين قبل بلوغ الساحة لأدلف إلى موقف السيارات الأقرب إلى الشورجة أو شارع البنوك.
مسحت دمعة هربت من قلبي، قبل قليل، عندما كنت عند باب المتوسطة الجعفرية للبنين (طبعاً) حيث أمضيت فترة غرامي لا دراستي.
بين الغرام والدراسة ثمة اكتشافات ليست مؤكدة: البنت التي تكبرني سناً (ب. ع. ي) في مكتب لاستيراد بضائع مجهولة. الدراسة حيث كان مدرسنا صالح الصوفي يجعل من درس الفيزياء مناسبة للمرح والفكاهة ليفكك فيثاغورس ويحيله إلى مناسبة لجعل المثلث سؤالاً في الدائرة التي تعوم فوق الماء على وفق الأجسام الطافية وهي تزيح بقدر ما تغرق.
المكان ينقسم: ماض للحنين وحاضر ملتبس ومستقبل لم ينضج كفاية. هنا ينقسم الزمن على الأصابع كما الإيقاع الموسيقي (حسب الفراهيدي) ليصبح الحنين إيقاع الزمان، زماننا، كله، على أصابعنا التي يأكلها الزمن ذاته.
بلغت عمارة (غريب جان) المطلة على جامع مرجان عند مدخل الشورجة، حيث أعمل في مكتب تجاري (السيد عبدالرضا الكلكاوي = بالكاف الفارسية) بعد أن تركت عملي خادماً في مكتب (عبداللطيف جهاد وأخيه) بخطئه الإملائي الشائع لأدخل مع تلك السيدة (ب. ع. ي) في علاقة حب ملتبسة بين شيعي، من أهل مدينة الثورة، ومسيحية كلدانية، من الكرادة، يجهلان الدين ويعرفان الحب.
في محاولة لاستعادة ذاكرة المكان وعطر الأحباب توجهت في أيلول (سبتمبر) عام 2003 إلى تلك البناية وأنا أعرف أن لا أحد هناك.. صعدت السلالم التي كانت تصعدها حبيبتي (ب. ع. ي) يومياً، فلم أجدها، طبعاً.. وبكيت ثانيةً.
هي الآن في عمرها السبعين، تقريباُ، وأنا الصبي الذي ما زال يبحث عنها.. عن (ب. ع. ي).
أين هي الآن؟
أشواق بغدادية
[post-views]
نشر في: 2 يونيو, 2014: 09:01 م