TOP

جريدة المدى > مسرح > التجربة المسرحية العربية ما بعد الكولونيالية.. حدود ومحددات

التجربة المسرحية العربية ما بعد الكولونيالية.. حدود ومحددات

نشر في: 2 يونيو, 2014: 09:01 م

(2-4) واتسم مسرح علولة بنبرته الثورية ليس لأنه تمرد على العلبة الإيطالي فحسب، بل لأنه أيضا أوجد بديلا إبداعيا. فهو من المبدعين العرب الذين وظفوا التراث الجزائري، بوصفه منبعا خصبا ومنهلا ثريا بحثا عن صيغة درامية متميزة. ولذلك يتصدر السرد الترتيب الهر

(2-4)

واتسم مسرح علولة بنبرته الثورية ليس لأنه تمرد على العلبة الإيطالي فحسب، بل لأنه أيضا أوجد بديلا إبداعيا. فهو من المبدعين العرب الذين وظفوا التراث الجزائري، بوصفه منبعا خصبا ومنهلا ثريا بحثا عن صيغة درامية متميزة. ولذلك يتصدر السرد الترتيب الهرمي لمسرحه. فقد رغب في إيجاد فلسفة جمالية خصبة يمكن استعادتها بروح جديدة لاقتراح رؤية إبداعية للفرجة العربية، فكان نهله من الحلقة بوصفها شكلا فرجويا عريقا يتضمن آليات درامية وبذورا فنية وجب استثمارها. وهو ما يبرر الحضور البارز للسرد في مسرحه، لأنه قوام الحلقة وجوهرها. يقول علولة كاشفا هذا المعطى: «القول هو الرابطة الأساسية في التواصل بين المدّاح وجمهوره، بالكلمة يجلب انتباه المتفرجين ويدعوهم إلى تخيل فردي ومستقل لوقائع ما هو بصدد سرده بفضل إكسسوار عادي كالعباءة، أو الحذاء، أو حجر في مركز الفضاء المسرحي (أي الدائرة)».
إن دعوة علولة إلى الموروث الشعبي بغية نقله إلى أفق المعالجة الدرامية المنتجة، ليست نزعة تروم الاغتراب في الماضي، لأنه لم يغب عن خطاب أغلب المسرحيين الغربيين ذكر المسرح الشعبي، والاهتمام بملامحه، وإبراز خصائصه، كما هو الحال بالنسبة لبيتر بروك الذي خصص له فصلا كاملا في كتابه الموسوم بـ: "المساحة الفارغة"، واصطلح على تسميته بـ"المسرح الخشن". وهذا دليل على المكانة التي يحظى بها هذا المسرح لدى أصحاب الرؤى التجديدية من المسرحيين الغربيين والعرب على السواء.
لقد مزج علولة بين الموروث الشعبي والتراث العالمي. ويمثل هذا المزج جانبا من الذات العربية ما بعد الاستعمارية، وهي الذات التي وجدت نفسها مشكلة في الحد الفاصل بين سردين: سرد غربي وسرد محلي. فمسرح علولة يمثل الوصل بين الشرق والغرب، والثقافة الشعبية والثقافة العالمة: أي أن مسرحه مسرح تواصل، وتفاعل، وإثراء متبادل بين الثقافات. فعودته إلى التاريخ الفني ما بعد استعماري لنقله من وضع المضمر إلى وضع المعلن، ليس نكوصا إلى الوراء ودعوة تهدف إلى الاغتراب في الماضي، وإنما رغبة ملحة في مقاومة التمركز المسرحي الغربي في صيغته الأرسطية، دون انعزال أو انطواء يعاند تطور التاريخ. إن مهمة علولة الفنية ذات هدف تصحيحي، لأنها نقد للهيمنة الفنية الغربية. وفي الوقت نفسه رفض لتمركز الذات العربية ورغبتها النرجسية في معارضة الغرب الفني دون مبرر، ما قد يؤسس تراتبية فنية تؤسس عنصرية فنية مقيتة. فقد أدرك علولة أن أشكال المقاومة الأكثر نجاحا وذيوعا هي تلك التي استقبلت الخطاب المهيمن وأسست معه سبل الاختلاف الثقافي. وفي هذا السياق، يشيد آنيا لومبا بمن آثروا هذا التوجه قائلا: «لقد هجنوا في الغالب ما استلفوه عن طريق مواءمتهم مع الأفكار الأصلانية وقرأوه من خلال عدستهم التفسيرية حتى أنهم استعملوه لتأكيد الغيرية الثقافية».
وعلى المسار نفسه، سار الطيب الصديقي. فبعد أن أبان عن فهمه العميق للتقاليد المسرحية الغربية، انتقل إلى مرحلة التجريب والعشق الصوفي للتراث. وهو الأمر الذي أفضى إلى تأسيس انعطافة حاسمة في مساره المسرحي، ممثلة في التوجه إلى التراث لاستنطاقه. فكان مشروعه التأصيلي في مغرب ما بعد استعماري. ولعل أهم ما ميز مساره التأصيلي هو: جرأته في التمرد على التقليد الفني الغربي، من خلال تقديم عروض مسرحية في ساحات عمومية، وفي حدائق كبرى بمراكش، والصويرة، والرباط، والدار البيضاء بغية وصل الممارسة المسرحية بالحياة اليومية، حتى يصير الفن المسرحي شيئا مألوفا عند الناس. ومن هنا فكرة تسمية فرقـته بـ"مسرح الناس".
إن عودة الصديقي إلى الحلقة - ¬بوصفها شكلا فرجويا منغرسا في الوجدان الجمعي العربي وذاكرة شعبية صاغت الهوية السوسيوثقافية الخاصة-¬ رؤية فكرية طامحة إلى الانفلات والتحرر من النزوع الهيمني الغربي لفرض الاستقلالية الفنية والاعتراف بممارسات مهمشة ومنسية وإظهار الهوية التي عملت الممارسات الاستعمارية على طمسها وتشويهها.
لقد شكل تعامل الصديقي مع الحلقة، وتوظيف مختلف آليات اشتغالها، ونقلها إلى البناية المسرحية بداية التناسج الفني الخلاق في مسرح مغربي لم يعد تقليدا للمسرح الغربي ولا شكلا ما قبل مسرحيا، وإنما متموقع في مفترق الطرق يمزج بين الأنا والآخر والشرق والغرب والتقليد والحداثة والثقافة الشعبية والثقافة العالمية. فإعادة الاعتبار للتقاليد الفرجوية لا يشير إلى الإعلاء من شأن الخصوصية الذاتية، والإغراق في المحلية، والتشبث بوهم الهوية الفنية الخالصة، إذ جمع الطيب الصديقي بين المحلي والوافد من الغرب مؤسسا بذلك فضاء التناسج الثقافي. فقد توصل إلى إيجاد صيغة درامية تعكس الهوية المغربية عبر تشكلاتها الفرجوية وأبعادها الحضارية دون أن تقطع صلتها مع المسرح الغربي.
وإذا كان الصديقي قد وظف الحلقة باعتبارها شكلا تعبيريا شعبيا ليضفي طابع الاحتفالية على مسرحيته، فإنه من هذا المنحى قد أعاد المسرح إلى شكله القديم حين كان الجمهور يشارك مشاركة جماعية في العمل المسرحي ليتحقق الاتصال الحميم بين الممثلين والجمهور، حتى  يصبح المسرح طقسا احتفاليا على غرار "كروتوفسكي Grotowski" الذي أفضى التقارب الفيزيقي بين ممثليه وجمهوره إلى خلق نوع من الانصهار والالتحام، ليتحول العمل المسرحي عنده إلى طقس يحل محل الطقوس الشعبية والدينية القديمة، يقول كروتوفسكي: «الطقس هو ضرب من ضروب العرض المسرحي، وهو فعل قائم بذاته، وأنا لا أسعى إلى اكتساب شيء جديد، بل إنني أميط اللثام عن حقيقة طواها النسيان، حقيقة قديمة، ترجع إلى العهد الذي لم تكن قد ماتت فيه الفوارق بعد بين الفنون» .
لقد تم نقل الحلقة بوصفها موروثا شفويا إلى عالم الأدبية من جهة، والممارسة الدرامية من جهة ثانية، بعد مرحلة التبني السلبي للنموذج المسرحي الغربي، إنه الوضع الجديد للحلقة في تحد مباشر للهيمنة الفنية الغربية، إذ انفتحت على الوافد الغربي وأخذت تتفاعل معه، فأغنته واغتنت به وغذته وتغذت منه، فلم تعد شكلا فرجويا ولا تقليدا للتقليد المسرحي الغربي. فإذا كان الإقصاء الاستعماري أفضى إلى تحنيط الحلقة بوصفها فلكلورا، ومؤشرا دالا على مغرب عتيق وجب تجاوزه، فإن الصديقي عمل على إضفاء طابع الحركية عليها بنقلها إلى البناية المسرحية، وأفق المعالجة الدرامية المنتجة. فقد استطاع إزالة الغبار عن الحلقة، فأدخلها مختبر العمل المسرحي الوافد من الغرب، محققا بذلك تناسجا مسرحيا في مغرب ما بعد استعماري.
لقد شكل الإقرار بالاختلاف الثقافي والتعدد الفني - نكاية على التصور المركزي الغربي الذي يعتبر الغرب محور العالم ومركز الثقافة والفن- نقطة الصديقي المحورية في محاولته تأسيس مشروع مسرحي مغربي. وراهن في تحقيق هذا المشروع على نقل التقاليد الفرجوية المغربية إلى البناية المسرحية، وجعلها مطابقة لأسئلة الواقع الراهن، ومنصهرة مع التجارب المسرحية العالمية، دون أن تفقد خصوصيتها وتفردها.
 إن التقدير والاحترام الذي يمنحه الصديقي للتراث-  الذي داوم على قراءته حتى أدمعت عيناه-  مجرد جزء من أشكال تعيين الهوية، مادام إعادة إبراز الماضي على مسرح الحاضر ما بعد استعماري، إنما يُدرج إلى جانب إحياء التراث ثقافات أخرى مغايرة وافدة من العالم الأخر. و تَحُول هذه الستراتيجية دون الانغلاق في هوية فنية قارة وأصيلة. فالاختلاف الثقافي لا يفيد التباين والصراع، بل الاندماج والتفاعل والتشابك، «فلا ينبغي التسرّع في قراءة تمثيل الاختلاف على أنّه انعكاس لخصائص إثنية أو ثقافية متعيّنة مسبقاً ومدوَّنة في لوح التراث المحفوظ».

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

السحب المطرية تستعد لاقتحام العراق والأنواء تحذّر

استدعاء قائد حشد الأنبار للتحقيق بالتسجيلات الصوتية المسربة

تقرير فرنسي يتحدث عن مصير الحشد الشعبي و"إصرار إيراني" مقابل رسالة ترامب

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته
مسرح

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته

فاتن حسين ناجي بين المسرح الوطني العراقي ومهرجان الهيئة العربية للمسرح في تونس ومسرح القاهرة التجريبي يجوب معاً مثال غازي مؤلفاً وعماد محمد مخرجاً ليقدموا صورة للحروب وماتضمره من تضادات وكايوسية تخلق أنساق الفوضوية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram