TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > الإيهام ونسق الإقناع

الإيهام ونسق الإقناع

نشر في: 24 نوفمبر, 2009: 05:39 م

محمود عبد الوهاب القصص والروايات التي تعتمد الإيهام والخيال الحرّ الجامح في مفارقة الواقع، يعترضها تلكؤًٌ في التلقي، ولا مصداقية للمقروء، لكنّ التصديق في القراءة عنصر مهم للاستجابة، ومن دونه، يكفّ المتلقي عن مواصلة فعل القراءة. في مثل هذه القصص، يوطّد الكاتب علاقته بقارئه عبر أنساق الإقناع،
يشيّدها في بنية القصـة أو الرواية، ويحقّق بها سطوته على القارئ ويكفّ عنه لا مصداقية ما يقرأ، ويخلق نظام استجابة مغايراً لقصص الواقع ورواياته. "ضوء مثل ماء" عنوان قصة قصيرة لماركيز، بترجمة صالح علماني. القصة مشوّقة جداً، وممتعة بخيالها الإيهامي، فما يجري في القصة لا يمكن أن يحدث في الواقع، وما يوهم بالواقع هو الذي يجري في القصة. تصديق هذا الإيهام، والاستجابة له، يتطلبان تقنية عالية ومهارة استثنائية في الصنعة. ماركيز روائي وقاص أبهر قراءه بإيهامية ما يكتب، فكما صنع ماركيز جوّاً مُقنِعاً، حينما طارت في الهواء إحدى شخصيات روايته " مئة عام من العزلة " فعل ذلك، وبتقنيات مختلفة، في قصته القصيرة " ضوء مثل ماء ". تلخيصي لقصة ماركيز " ضوء مثل ماء "، هي محاولة باهتة لعرض قصة متفردة، تقوم على "صنعة " القاص لا على " الحكاية ": الطفلان " توتو " في التاسعة من عمره و " جويل " في السادسة، شديـــــدا الإلحاح على والدهما بطلب زورق التجذيف، ولمناسبة عيد الميلاد وتفوقهما في المدرسة، أُضطرّ والدهما إلى أن يجلب الزورق. استطاع الطفلان و أصدقاؤهما الصغار نقل الزورق إلى الطابق الخامس من المبنى رقم 47 في شارع باسيو دي لاكاستيانا. سأل " توتو " أباه، مرة: كيف يضاء النور بمجرد ضغط الزرّ، أجاب الأب: الضوء مثل الماء يفتح أحدنا الصنبور، فيخرج. احتفظ الطفلان بكلام والدهما حتى يوم الأربعاء ليلاً، حينما ذهب الأبوان إلى السينما، أغلق الطفلان الأبواب والنوافذ ثمّ كسرا أحد مصابيح الصالة المضاءة، فبدأ تيار من الضوء الذهبي البارد يتدفّق من المصباح المكسور " وتركاه يسيل إلى أنْ بلغ ارتفاعه أربعة أشبار، عندئذٍ أقفلا التيّار وأخرجا الزورق وأبحرا بمتعة بين جزر البيت " وفي يوم الأربعاء التالي بعد غياب الأبوين أيضاً " ملأ الطفلان الشقة إلى ارتفاع الذراعين وغاصا مثل سمكتي قرش وديعتين تحت الأثاث والأسرّة وأخرجا من أعماق الضوء الأشياء التي كانا قد فقداها منذ سنوات في الظلام ". وفي يوم الأربعاء الثالث بعد غياب أبويهما، كان الناس في شارع كاستيانا يرون شلاّلاً من الضوء ينسلّ من العمارة القديمة ومن شرفاتها ويجري في الجادة العريضة... حطّم رجال الإطفاء باب الطابق الخامس، وكان البيت طافحاً بالضوء والمقاعد المغلّفة بالجلد تطفو في الصالة.... وفي نهاية الممر كــان الصغيران يطفوان... توتو في مقدمة الزورق منتشياً بالمجذافين، والقناع على وجهه، وجويل يطفو في مؤخرة المركب. هناك محوران أساسيّان لكل عمل إبداعي، هما: التوصيل والتأثير. التوصيل في قصص الإيهام والواقعية السحرية، صعب جداً، يتلكأ التوصيل بعدم التصديق. ماذا فعــل ماركيز في " ضوء مثل ماء " ليحمل متلقيه على مواصلة فعل القراءة، وتعطيل الكفّ عن عدم التصديق؟. هيّأ ماركيز قارئه نفسيّاً لجوّ القصة الإيهامي، ووضَعَه تحت سيطرته، بما صنع من أنساق موهمة بالواقع، ومحيطة ببنية القصة، تتداخل في نسيجها عبر إشارات وموجّهات لتنظيم استجابة القارئ، منها: 1. نسق الترقيم والتسمية والتعريف: مثل: الإشارة إلى الطابق الخامس من المبنى رقم 47 في شارع باسيودي لاكاسيانا، لإضفاء مسحة مكانية للواقع. 2. نسق التأريخ: مثل: وفي كلّ أربعاء يذهب الأبوان إلى السينما، للإيهام بزمان واقعية فعل الطفلين. 3. نسق تسويغ الأفعال: إشارة إلى سؤال توتو للأب: كيف يضاء النور. لتسويغ معلومة كسر المصباح. ذهاب الأبوين كل أربعاء إلى السينما لتسويغ الإنفراد والقيام بفعل التجذيف. 4. نسق المشابهة بين الماء والضوء في السيولة. 5. نسق عمر الطفلين لتأهيلهما للعب الدور الإيهامي ضمن نشاطهما الطفولي، إذ تفقد الأشياء حقيقتها في الأداء المتخيّل للطفل. إن أنساق الإقناع تُحيل إلى مرجع واقعي بالتسويغ، فلم يترك ماركيز الإيهام حرّاً بل قيّده بهذه الأنساق، ليشدّ قارئه إلى نظام استجابة يسوّغ تصديق ما هو إيهامي بأنسـاق إقناع منتِجة لواقع إيهامي أيضاً. وهكذا كتب ماركيز قصة ممتعة، يتضامن داخلها الواقعي والإيهامي في بنية ينغمر في قراءتها المتلقي من دونما أن يسأل: كيف يحدث هذا؟. المبدع الكبير، مَن يجعل متلقي نصوصه مسحوراً بما يقرأ، ومصدّقاً لما يجري، كما يصدّق الطفل ما يحدث من غرائب من دون أن يسأل: كيف تتكلم البطّة في الحكاية وتفهم وتجيب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram