الشاعر يرث خزائن اللغة، ويحوز على سرائر استعاراتها، يساكنها ايروسا، وقميصا للأخطاء والمغامرات، سيمياءات مباحة لاصطياد ما يستعاد من الأمكنة والوجوه، هي لعبة الشاعر الأثيرة في مواجهة الاغتراب، اذ يستكنه من خلالها حمولات العرّاف والعرفاني، والصوفي
الشاعر يرث خزائن اللغة، ويحوز على سرائر استعاراتها، يساكنها ايروسا، وقميصا للأخطاء والمغامرات، سيمياءات مباحة لاصطياد ما يستعاد من الأمكنة والوجوه، هي لعبة الشاعر الأثيرة في مواجهة الاغتراب، اذ يستكنه من خلالها حمولات العرّاف والعرفاني، والصوفي والخيميائي، او حمولات الرائي صاحب المرقاب، والمورفولجي الواقف عند(صيدلية المجاز)..
فرادة الشاعر تتمثل في معرفة التصرف بهذا الإرث، والكيفية التي يضع فيها اللغة بوصفها الخريطة والجينيالوجيا في النسق الفاعل، حيث تجسّر خطاه ما بين حافات اللغة، وبين غوايات كائنه المشغول بالخزائن والدكاكين والصيدليات، اذ تتلبس لغته شهوة البهجة والفتح، اومهارة اللص، وحذاقة الكاشف والباحث، والذاهب الى اقصى اليومي والسحري والجسدي، حدّ ان تلك اللغة اللجوجة، السائلة، تصبح إعلانا عن وجوده المضاد، وعن معنى ما يضلل به الخطى الى الجوار...
وظيفية الشاعر هي ارتكاب هذه الاستعارة الكبرى، وكل هذا التخارج وهذا التضاد، وإعطاء اللغة امتياز القناع، وامتياز الجرس، او الغيمة او الشجرة او المنطاد...
الشاعر عواد ناصرمن اكثر شعرائنا هوساً بغواية الخروج عن الخزائن، وذاكرة الغبار، فهو مسكون باللغة التي تتعرى وتتمرأى، وتبيح لنفسها ان تكون جسدا، تشغله اللذة والحكاية والذكرى، واليوميات التي لاتهرب بعيدا عن القصيدة، اذ هي السطح اللزج، والرائحة الشهية، والقميص الفائر بالأنوثة..
في كتابة الشعري(احاديث المارة) الصادر عن دار المدى للثقافة والنشر 2013يبدو عواد ناصر وكأنه الجامع والمدوّن لاحاديث المارة، العابرين عبر التاريخ، واليوميات والحروب والمقابر الى القصيدة، اذ يلبس قناع الحكيم، وقناع صاحب السيرة، والذي يروي حكاياته، بوصفها حكايات سيرية للأمكنة والأصدقاء والحبيبات والأهل والمهاجر البعيدة. هذه(الاحاديث) هي اركيولوجيا الشاعر في استعادة الرؤيا، وفي استكناه الحمولات الرمزية للوجود، اذ يمارس الشاعر وظيفة الرائي الذي يستنطق تلك الرؤيا، وهي باعثه لإعادة التفكير بالعالم والوجود عبر القصيدة، تلك القصيدة التي تعني الحرية اولا، وتعني التجربة، والحضور، والبحث عن الامتلاء، والباعثة عن إثارة شهوة الاستعادة/ القراءة، والاستعادة/ المعنى، والاستعادة/ اللذة والمزاج، فهو مازال- كما يبدو- يؤمن بوظيفة الشاعر الذي يضخّم هذه الاستعادة، عبر التوغل في سرائر الاشياء- الزمن، الكائن، الأمكنة، اللغة- وعبر الانشداد الى فعالية القصيدة، بوصفها المرقاب، او بوصفها كتاب الأسرار، مثلما يؤمن باستعادة القارئ، القارئ الذي يشاطره الفكرة والطاولة والورقة والزاوية والكأس، لكن هذا القارئ ليس بعيدا عنه، انه يعرفه بشغف، او بحميمية، لأنه واحد من المارة...لذا لا نجد عواد ناصر مشغولا بالكائن البعيد عن نصه، والكائن البعيد عن لهفة مايكتبه وما يتحسسه ، او ما يلجّ به، وحتى عتبة العنوان في(احاديث المارة) لا تبدو عتبة انطولوجية للتجريد الفكري، بقدر ماهي عتبة لرصد اليومي والحميم والمقروء، اذ يمكنها ان تكون عتبة العائلة، عتبة الأم، او عتبة الاصدقاء، او الرفاق، عتبة الحرب، او الأسماء التي يبادلها قلقا ظل يساكنه هاجسا من مدن الجنوب والخوف الى شواظات الحرب والكفاح المسلح، مثلما ظل يساكنه في الأسفار والمهاجر وعند سنوات العمر الراكضة، انها عتبة نازفة، العتبة التي لا تفضي الاّ الى العتبات الاولى..
(واخيرا..رحلت أمي/ ما شيعها أحد/ فالأبناءْ/ رحلوا أو قتلوا في حرب بسوس أبدية/ بينا أمي أبسط من جرة ماء تحت هلال ساهر/ وأكثر حزنا من مشحوف يغرق/ لم ترفع علماً غير عباءتها السوداء/ ولم تلهج بشعار غير الصلوات الخمس/ وتعرف أيضاً أن المنفى سيطول على الولد الشارد/ - خذ شيئاً تتغطى، يا ولدي، فالمنفى بارد؛/ لكن أمي رحلت كفاً خالية/ تتدلى من تابوت/ وانا، وحدي، في موكبها عبر ملايين القارات/ اختار لها السُوَّرَ العطرات/ (كما يتلوها عبد الباسط)/ وأرد عباءتها السوداء عليها/ ثم اغمض عينيها)
في هذا النص نتلمس فاعلية الاستعادة عبر الإيحاء بشفرة الدلالة (واخيرا)، اذ تفضي هذه الشفرة الى تداعيات قاطعة، حسية والى اسقاطات نفسية، والى تمثلات تستكنه الرؤيا بوصفها فعالية مضادة للفقدان، او الرؤيا المشغولة بالتفاصيل الحميمة، لاتها تتقصي ما يتساقط من ضدية شفرة الموت/ الرحيل، يستنطق الشاعر من خلالها التفاصيل، ويلامس مافيها من ذكريات لم تزل طرية، ومن سرائر فاجعة، او غيابات موحشة، اذ يوهبه هذا الاستنطاق بالإشباع التعبيري والرمزي، فالأم هنا( فيتشية) نفسية لإثارة واستدعاء غريزة الاكتمال والإشباع، ولاستجلاب التفاصيل الى الصورة الوجودية، بوصفها المقابل اللساني للصورة الشعرية، ليس في سياقها التشكيلي، بل في سياقها الرؤيوي، والذي يجعل من الأفعال فونيمات صوتية حادة، فضلا عن كونها وحدات تصويرية موحية بالمزيد من الحركة والشكّل..
عواد ناصر وشعرية التفاصيل..
شعرية عواد ناصر، تكمن في استنطاقه التفاصيل، وفي استعادته الشغوفة لحمولاتها المتوهجة، اذ تتخلص البنية الشعرية من معيارية البلاغة، ومن سطوة الجملة النحوية، باتجاه خلق حساسية لحضور الجملة الثقافية، بوصفها الجملة الشفيفة، الرخوة، المطاوعة، الجملة النسقية بدلالتها النسقية ومجازها الكلي، والتي تقوم أساسا على الكشف عن المضمر، مقابل التماهي مع تخصيب المعنى، والتمركز في الصورة، اذ ليس للقصيدة من مهيمن سوى مجدها التعبيري، فهي دون شكل محدد لها، او ايقاع محدد، وكأن الشاعر يوحي لقارئه بان شعرية تلك الجملة تكمن في انفتاحها، وفي تدفق طاقتها الصورية، وفي انثيال مجراها التعبيري، والتي تضع الشاعر في جوهر الفاعلية الشعرية، تلك التي تقوم على التقاط متواتر للفكرة والصورة والعلامة والصوت والمشهد..
عواد ناصر يكتب قصيدة مقاربات، اذ هي تقارب المكان، والوجود، والمعنى، والمغامرة، مثلما تدفع باتجاه ان تكون تلك المقاربة نوعا من التوليد، الذي يجعل الشاعر بلا قيود، يملك شراهته في استعادة كل شيء، وشحن الجملة بطاقات استثنائية ما يقربها من(النص المفتوح) النص الجامع بنثريته الساحرة، مع بنيات مجاورة تتزاوج فيها السيرة، والسرد، والسيناريو، والفلاش باك، والدراما، والحكاية، وبما يسيّر القصيدة/ النص الى مديات تعزز جوهر الفاعلية الشعرية، وشحن اللغة بتدفقات لها قوة التنافذ والتواصل..
(امرأة في الستين/ تجلس عند الباب/ تخفي في طيات الثوب/ وريقات الابن الهارب/ شخص يرقبها عبر سياج الجيران/ تطرق مضطربة/ (..) تتعثر كالعادة/ وتصلي من اجل الأبناء/ الأول غادرها، هرباً نحو هواء العالم/ الثاني يندس بزوجته حتى اليوم التالي/ الثالث جندي/ الحرب رغيف من طين/ لم تزل المرأة عند فواجعها الستين/ والأبناء كما كانوا:/ الهارب ملتبسا في الأركان المهجورة/ المتزوج يجلس عند الأقدام/ وعاد الجندي بساق مبتورة(..)/ لم يزل الشخص الواقف عبر سياج الجيران/ يتنصت للنسوان/ ويدوّن تقريراً يوميا عن أحداث البيت)
تؤشر هذه القصيدة هاجس(الفاعل التصويري) كما يسميه الناقد محمد صابر عبيد في مواجهة عزيزة الاستعادة، اذ يصطنع لها الشاعر مشهدا تصويريا، يبدا من الجملة الوصفية المحكومة بدلالة الزمن( امرأة في الستين) وينتهي عن فاعلية المدون التصويري الذي يسجل الوقائع اليومية، عبر صورة الشخص الواقف عبر سياج الجيران، وعبر وظيفته الإشباعي في الإنصات للنسوان، وعبر تدوينه تقريرا يوميا عن أحداث البيت..
هذا المقطع الشعري الموحي بتصويريته العالية، وبتعبيريته الشفيفة، قد يكون المجال الأكثر توصيفا لأغلب قصائد الكتاب الشعري، اذ يحقق فيها شعرية الصورة، وشعرية الفاعل، مثلما يحقق فيها شعرية نظرته للوجود الذي يستعيده من التاريخ والوقائع واليوميات، تلك النظرة التي تعني بحثه الدائب عن الإشباع المفقود، وعن حساسيته إزاء الأمكنة/ المنافي والأحداث والعلاقات، والتي لا يجد إلا القماشة اللغوية مجالا تفكريا للأعلاء من فاعلية هذه الاستعادة..
عواد الناصر ، الشاعر (السبعيني) لا يضعنا في كتابه الشعري او مختاراته الا في سياق هذه الفاعلية الشعرية، اذ لا نجد وجه الشاعر المنحدر من الزمن، بقدر ما نرى حكمة الشاعر الرائي، صاحب القرطاس والخبرة والعصا، والذي يراقب المواقيت وهي تنزع عنها معاطف الغبار لتلوذ باللغة، بوصفها الاستعارة الكبرى التي تخبئ الرسائل والرقى والتعازيم والشفرات واليوميات، تلك التي تبيح للشاعر استعادة التفاصيل كثيرا، والتلذذ استعادة لعبته الباذخة في الاستنطاق والمزاج والتعويض والإشباع...