الضابط الكبير الذي يحدثني بأسف حول انهيارات الامن المتتالية، يعتقد ان البلاد ليس فيها ما يكفي من العقلاء لردع موجات "الخبل" و"الخبل المضاد". لكنه يتساءل مع نفسه: الا توجد طريقة حقا بعد ٤٠ عاماً من الموت، لشراء كمية من العقل مع صفقة الدبابات؟
هذا ما يحصل حين نطلب من العساكر ان يقوموا بواجب الساسة. الكثير من الملوك في الماضي الغابر وقعوا في الخطأ ذاته وورطوا شعوبهم في خسارات مفهومة وغير مفهومة. وفي الماضي الذي لم يصبح غابراً بعد، وحين كنا اطفالاً نحن الذين نموت اليوم ميتة ليس فيها شيء مميز سوى انها تكرار ممل لميتة آبائنا، كان الملك الذي يحسب نفسه على رأس جمهورية، مجرد شرطي، حتى لو حسب نفسه ملكاً. ظلت السياسة عنده عصاً غليظة تقف في باب صف دراسي مليء بطلبة مشاغبين. العصا الغليظة وفق خبرة سبعة آلاف عام من التمدن، تتولى حراسة الاتفاقات الصحيحة. لكن حين نطلب من العساكر ان يقوموا بواجب الساسة، ستتكسر بنادق الجميع دون ان تفلح في صناعة اتفاق او صوغ تسوية.
هنالك اسباب عدة لمنح العسكر دورا سياسيا مغلوطا. اذ يحصل ذلك لان الساسة يرتكبون خطأً قابلاً للتصحيح فيما بعد، او حين لا يكون هناك سياسيون بالاساس. وذلك حين نمنح دور السياسي لاشخاص يصعب عليهم فهم ادارة الصراع بأقل اساليبه كلفة، وحين يصعب على هؤلاء ان يتعلموا، بسبب عناد معروف عند اقل الفتيان حكمة.
ليس هناك من جديد حقاً، ففي هذه البلاد كان الحاكم طوال عقود، يكنز الذهب والفضة ليقايضهما بالبنادق، ويجمع الفتيان ليرسلهم الى حرب تريد تجسيد ارادة سياسية مستحيلة، فيلقون حتفهم ويعودون بنعوش مهزومة، وبدل ان يحظوا بتكريم لائق، ينشغل الحاكم بشتم المؤامرة الخارجية. ولا ادري من الذي قال لهذا السلطان ان الدنيا تخلو من المؤامرات، وهل من دور للسياسي سوى احتواء المتآمرين الموجودين دوماً؟
وبدل ان نراجع ما حصل عند كل هزيمة، ينهمك السلطان في السابق، وحالياً، بتوجيه اللوم للجنود الميتين، لانهم لم يحاربوا جيدا. وهذا ما يحصل حين نفهم الحكومة كفوج من الشرطة ينشر الذعر ويصوغ اتفاقات اخضاع ومهانة، ويحاول اجبار الجميع على السمع والطاعة.
انه لأمر محير يفكر فيه ابناء جيلي منذ كنا اطفالاً. السياسي الكبير يتهرب ألف مرة من الحوار مع خصومه، خشية ان يقال عنه انه تنازل ورضخ وتعرض للهزيمة. لكنه لا يتردد في ارسال افواجه العسكرية لاخضاع الخصوم، مع انه يرى تفاصيل الهزيمة التي ستلحق به وبهم.
طوال عقود، لم نخسر الحرب لاننا قاتلنا بنحو تنقصه الشجاعة، فقد امتلكنا جرأة لمصاحبة الموت طوال ٤٠ عاماً، ويندر ان يجرب شعب ذلك الأمد الاسود. لكن هذا ما يحصل حين تطلب من البندقية التوقيع على بياض، وتريد من المدافع ان تكتب نصوص التفاوض.
لقد تغير العالم كثيراً، ولم تعد هناك قبيلة قوية يمكنها ان تسحق قبيلة ضعيفة، فالتغيير في كل المعايير، جعل كل القبائل قادرة على الرد بقوة لا نتخيلها للوهلة الاولى. ولذلك ورغم ان كل الشعوب تتعلم اللعب بالسيف، فإنها تحاول كذلك ان تتعلم الحكمة، وفنون تدبير المملكة. حتى القبائل البدائية تحفظ قواعد العمل وتحسن بناء التحالفات وتصمم تنازلاتها بدقة، وهي تعرف جيداً القبيلة المهزومة التي لا يحسن رجالها اكتشاف التوقيتات المناسبة، للحرب والسلم.
ان كل الحكمة المتاحة لن تمنع وقوع الحرب، لكن الحكيم لا يذهب الى الحرب بمفرده، ولا يحمل السيف قبل ان تحدد له فرق الاستطلاع، مواقع عدوه. والا فسيكون انتحارياً آخر، لا يعبأ بحسابات ولا تقديرات.
نعم، الامر واضح بعد ٤٠ عاماً من الموت، فقد حكمنا سلاطين انتحاريون، وأرادوا ابادة منافسيهم الذين كانوا بالصدفة، انتحاريين ايضاً. وقد تمادى الطرفان كثيراً ولم يشعرا بالملل، بل راحا ينحران في طريقهما، كل من يشكك بمبررات هذا التدمير الذاتي الشامل. وقد اصبحوا مدمنين على هذه اللعبة، ولن تستفيق هذه البلاد، قبل اخذها الى عيادة متخصصة لعلاج الادمان.
البنادق لاتوقع اتفاقيات السلام
[post-views]
نشر في: 7 يونيو, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 1
د. شيرزاد
نحن في العراق خاصه لانفهم معنى السياسه. حتى ان كلمه المساومة compromise تعتبر كلمه قذره في الثقافة العراقيه. في حين ان هذه الكلمة تعتبر جوهر السياسه في بلد ديموقراطي كبريطانيا. والسياسي هنا يعتبر محترما للغايه مع هذه الصفه. في حين في العراق نقدس ألقوه ون