كتبت قبل فترة عن حيرتي اللازبة إزاء ما أكتبه عموداً ثقافياً لقارئ عراقي مضرجاً بدمه أو يمسح الغبار عن جبينه مبتلاً بعرقٍ قاسٍ عند نقطة تفتيش أو سيدة تقلق على مدار الساعة سواء أكان زوجها في البيت أو خارج البيت، مواطن كئيب، حيث كل مواطن كئيب منذ الولادة.
أقول لنفسي: يا أخي، يا عواد بن ناصر، لتكتب اليوم (عن) التباسات الثقافة والكتابة والقراءة في بلد ملتبس، أو لتنقل تجربة فنية بريطانية على شكل رسالة لأصدقائك الفنانين في العراق عما يبديه العالم المعافى في الفن، فأتراجع!
حسناً: لأكتب عن كآبة العراقي المزمنة فأتحفظ: وهل أنت عالم نفساني؟
إذن، لأكتب في السياسة بينما انفض المولد وفاز من فاز وخسر من خسر وزوّر من زوّر، من دون أن يتذكر أحد تلك المقولة التي أطلقها كاتب غربي: "في الانتخابات ليس عدد الأصوات هو المهم بل وزنها"، ولست بالسياسي العليم، فأهل العراق أعرف مني بشعابهم وكل حديث في السياسة يزيدها بلّة.
هاتفني صديق من بغداد: حسناً ما تفعله في عمودك ونصوصك وترجماتك في (المدى) لأنها تمثل لنا نافذة صغيرة مفتوحة على هواء العالم بينما نختنق.. نتابعك بشغف ونتقبل رسائلك التي نحس بأنها موجهة لنا نحن المختنقين في بلد بلا رسائل تذكر.
هاتفني صديق ثانٍ من بغداد: يا صديقي الشاعر، رفقاً بالقراء، أمثالنا، حيث تتناول الثقافة والفن بالشوكة والسكين في بلدك الثاني، بريطانيا، بينما تتكدس تحت أظافرنا دماء الوطن وتتكسر اللغة في حناجرنا المذبوحة ونحن نركض في شوارع لا تؤدي إلى مكان.. نحن نغبطك في حياتك (هناك) ومنّا من يكرهك لأنك تستفز فقره المقيم على كل الجبهات، وفي أحسن الأحوال ثمة من يحسدك، يا صديقي، على ترفك الثقافي.
الصديقان على حق.
وأنا على حق أيضاً.
والقارئ، عموماً، على حق لأنه زبون الكاتب، والزبون على حق دائماً.
ثمة أساليب كثيرة لرشوة القارئ، والعراقيون خبراء في بيئة راشية ومرتشية في العلن والسر.
الكاتب الذي يقدم لقارئه ما يود أن يقرأه كاتب مخادع، فهذا لا يكون إلا على حساب تلك الفكرة الضدية التي تحك قشرة العقل أو تقدح الدماغ لتوليد الشرارة الضرورية لإضاءات متعددة.
تقوم العلاقة بين الكاتب والقارئ على مبدأ التحدي، كما نصحنا شيخنا الوجودي الفرنسي جان بول سارتر وهو يجيب على سؤال فهم الكتاب أو عدم فهمه، قال: "أنا أتحدى، قارئاً، كل كتاب يتحداني".
ما يخفف من وطأة حيرتي، قليلاً أو كثيراً، وأنا أكتب لقارئ عراقي هو إصرار العراقيين لا على القراءة، حسب، بل على الكتابة، على رغم أن كتابتهم لم تغادر، بعد، صيحة "آخ" ردّة فعل غريزية بعد أن تلقوا كل تلك السياط والقنابل والمنافي ولم يحققوا أي ظفر يذكر سوى أنهم انتصروا على الموت ليبقوا، فقط، على قيد الحياة.
أن تكتب في السياسة بلغة المثقف ستبدو في وادٍ سحيق يتسلق سفحاً عصياً نحو قمة لا مرئية.
أن تكتب في الثقافة بلغة السياسي المسحوق تحت أحذية الأباطرة ستكون مثيراً للسخرية.
لست في وارد تبرير كتابتي، نصاً أو قصيدة أو ترجمة أو وجعاً شخصياً، فالنص، أي نص، يبرر نفسه عبر أدائه الذاتي وكيف أدار ألمه ومشروعية أحلامه.
كل كتابة حقيقية هي موقف في لحظة هجوم.. لا حيلة دفاعية ولا مرافعة "عن".. إنما "ضد" يستحقه كل ما يجري في الوطن.
قالت صديقة تقيم بلندن: كل نص تكتبه عن الحب يفرّغ الحرب من رائها.
العمود الثقافي.. مرة ثانية
[post-views]
نشر في: 9 يونيو, 2014: 09:01 م