حارث طه الراوي لا انسى قصيدة (الشبيبي): (انتم متعتم بالسؤددِ) التي وقفت عليها اول مرة قبل اكثر من ثلاثين سنة على مقاعد الدراسة الابتدائية، وقد كانت تطربني وتهزني وتفعل بي فعل السحر، وهي التي الهمتني، وانا طريّ العود، حب الوحدة الوطنية وعشق الوحدة العربية،
ولم يكن صاحب هذه القصيدة، بالغريب عليّ، فقد كنت اراه في بيتنا في مجلس المرحوم والدي، فأرى الرزانة مجتمعة في تقاطيع وجهه الاملس المشرب بالحمرة، ذي الانف الاقنى والعينين السوداوين الواسعتين الحالمتين والفم الواسع ذي الشفة السفلى البارزة واللحية الخفيفة التي اشتبك ببياضها الكثيف بسوادها الخفيف، اما عمامته البيضاء فقد كانت تزيد جبهته العريضة البارزة هيبة.. ودارت الايام وانطوت سنون، واذا بالشبيبي، يزور مكتبة المجمع العلمي العراقي سنة 1957 وكنت، يومئذ، امينا لها، واذكر ان بداية الحديث كانت عن (امين الريحاني) وكتابه (قلب العراق) وكان البرت الريحاني – شقيق امين- قد كلف الشيخ الشبيبي بكتابة مقدمة طبعته الثانية، المنقحة، فحدثني الشبيبي عن مزايا صديقه الريحاني وابدى اعجابه بإسلوبه دون لغته، وطلب مني ان اعيره كتاب (قلب لبنان) لامين الريحاني من مكتبتي الخاصة، فأعرته إياه بكل سرور.. -ما قولك بينبوع الماء الذي يواصل العابثون رجمه بالحجارة لمدة تزيد على ربع القرن، الا ينقطع عن التدفق؟ الا ينضب؟ هذا هو حالي مع الشعر، فأحداث العراق الجسيمة وظروفه القاسية لم تدع لي مجالا او مزاجا لنظم الشعر.. واستمر الشيخ الشبيبي في زياراته للمجمع العلمي بعد انتقال المجمع من شارع الزهاوي الى الوزيرية. وسألته ذات مرة: -لماذا هجرت القريض؟. ثم اردف مستشهدا ببيت من لاميته الشهيرة: من الحق جس الشعر الا لغاية تفرّق فيها بين حقٍ وباطلِ وخلال رئاسة الشبيبي للمجمع العلمي العراقي (1963- 1965) كان يطيب له له ان يملي عليّ بعض مقالاته من دفتر مسوداته الخاص، واذكر انه املى عليّ بتأريخ 18 كانون الثاني 1965 مقاله القومي الرائع وشائج القربى بين مصر والعراق، الذي اثبت فيه الخصائص المشتركة بين البلدين العربيين الشقيقيين من النواحي الجغرافية ومن ناحية تشابه ابناء مصر والعراق بالملامح والسحنات ومقاطع الاعضاء، وحتى الامزجة!. واملى عليّ، على اثر وفاة صديقه المرحوم الاستاذ لطفي السيد رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ذكرياته عنه، التي دوّنها في دفتر مذكراته على شكل يوميات، وبينما كنت منهمكا بتدوين مايمليه عليّ الشيخ، رنّ جرس الهاتف واذا بالمتكلم الاستاذ حسنين – استاذ الصحافة في كلية الاداب بجامعة بغداد، يومئذٍ، وكان مراسلا لمجلة (ابناء الوطن) المصرية، ورجا الشيخ الشبيبي ان يأذن له بزيارته في المجمع بعد دقائق، ليطرح عليه بعض الاسئلة الثقافية التي ستنشر اجوبتها المجلة المذكورة. وجاء حسنين فهممت بمغادرة الغرفة كما يقتضي الحال، فمسكني الشيخ الشبيبي من يدي واصرّ على بقائي، فامتثلت لرغبته.. وكان احرج سؤال وجهه حسنين الى الشبيبي هو: -ما رأيكم بكتاب (الشعر الجاهلي) لطه حسين؟. ووجه الاحراج ما اثاره هذا الكتاب من ضجة كبرى عند صدوره سنة 1926 لتعرضه الى بعض الامور المتعلقة بالقرآن الكريم بشكل يثير بعض الحساسيات الدينية مما اغضب بعض رجال الدين في مصر وقت صدوره فتعرّض مؤلفه لمتاعب كثيرة.. كان صديقه (طه حسين) يومئذ رئيسا لمجمع اللغة العربية، فاذا قال الشيخ الحقيقة بحق كتاب صديقه اغضب طه، واذا لم يقلها اغضب الحقيقة، لقد تركه حسنين بين هذين الخيارين الصعبين، فاحتدمت اعصابه وشبك كفيه محاولا ان يعصر انفعاله بهما، وكدت ان اكون فضوليا اذ حدثتني نفسي ان ارجو من الاستاذ حسنين ان يسحب سؤاله لما فيه من احراج وازعاج للشيخ، ولم يدر بخلدي ان شيخنا سيتخلص من هذا الاحراج بجوابٍ مفحمٍ لايخطر على بال احد. فقد أجاب بكل بساطة وهدوء.. -لم اقرأ هذا الكتاب.. فاندهش حسنين، وفغر فاه، وكاد ان ينهض من كرسيه لفرط عجبه وقال: -وكيف لم يقرأ استاذنا الشبيبي هذا الكتاب؟ -ليس من المفروض فيّ ان اقرأ جميع مؤلفات طه حسين.. اما المؤلفات التي قرأتها لطه فتدل على غزارة علمه وجمال اسلوبه الاخّاذ.. كتاب ذكرياتي حارث طه الراوي
مع الشيخ محمد رضا الشبيبي
نشر في: 25 نوفمبر, 2009: 04:22 م