TOP

جريدة المدى > عام > نــص..حقيبة غريق

نــص..حقيبة غريق

نشر في: 14 يونيو, 2014: 09:01 م

1في حقيبته التي انتشلت من مياه المحيط الهادئ، كان هناك قميص ومنشفة ودشداشة وحزمة وثائق وألبوم صور أتلفها الغرق. لم يكن المحيط الهادئ كما رآه صديقي سعدون سينما هادئا قط، كان غاضبا طوال الرحلة العجيبة التي غامر بخوضها فرارا من العراق آملا في الوصول إلى

1
في حقيبته التي انتشلت من مياه المحيط الهادئ، كان هناك قميص ومنشفة ودشداشة وحزمة وثائق وألبوم صور أتلفها الغرق. لم يكن المحيط الهادئ كما رآه صديقي سعدون سينما هادئا قط، كان غاضبا طوال الرحلة العجيبة التي غامر بخوضها فرارا من العراق آملا في الوصول إلى "بلاد الحرية". لا شيء يدل عليه الآن سوى محتويات الحقيبة التي أراها على طاولة معدنية. كانت هناك صورة واحدة من بين الصور الناجية من التلف هي هويته الأخيرة بالنسبة لي ووحدها الكافية للدلالة على تلك الحياة وذلك الكائن.

2
في صبانا كنّا نغامر معا تحت جناح الليل بتسلّق سياج المستشفى الجمهوري وجدرانه للوصول إلى سطحه العالي الذي يشرف على سينما الخيّام الصيفي المكشوف. نجلس هناك لنشارك زبائن السينما عوالم وهمية ومدهشة في أغلب الأحيان تتكشّف على شاشة هائلة. كنت مهووسا بالسينما ولكن ليس كهوسه، أعيش في عوالم الأفلام أيضا ولكن ليس كما كان يفعل مخلصا. عاش أكثر من حياة متماهيا في شخصيات تولّه بها، أراد لحياته  أن تكون على شاكلتها وكافح من أجل ذلك لكن الأيام كانت صلبة عنيفة والجديّة المتكبرة التي أشاعتها الحروب لم تكن لتسمح بشبر من طراوة الفن.

3
في تلك الصورة؛ نقف هو وأنا (كنا في سن السادسة عشرة أو أصغر قليلا ) في نهار عيد ويبدو المستشفى الجمهوري خلفنا. ملامحنا وثيابنا ونظراتنا التي هرأها وطمر حدتها البحر أججت فيَّ الحنين والتمعت في ذاكرتي التفاصيل كلّها.
استعدت وجهه المبتسم وسعادته واندفاعه في ذلك الصباح بعد أن شاهدنا في الليلة التي سبقته (سارق الجرائم). كان يتحدث عن أداء جان لوي ترنتينان مأخوذا بقوته بينما كانت الناس أمامنا في الشارع تهرع إلى ضفة النهر لمشاهدة جثة غريق طافية. لم يكن هناك شيء ليستحوذ على اهتمامنا أكثر من فيلم مثير.
ها هو أمامي الآن وبعد أكثر من ثلاثين عاما متمثلا في هذه الصورة تحديدا وفي المقتنيات الفقيرة التي لا تدل على الكثير حتى بالنسبة لي، أنا الذي كان يعتبرني واحدا من أخلص أصحابه. لا أظن أن صديقي المسكين سعدون غامر طوال تلك السنين بالخروج من السينما على الرغم من غرقه المأساوي في مشهد مخيف الانفتاح في الباسيفيك. أظنه مات في فيلم تخيله بأدق تفاصيله، غرق في بحر ما من خياله غير عابئ بمعرفة هذا العالم. كنت الشاهد على حزنه وجنونه وعبقريته المتلكئة وعشقه المردود على نفسه.

4
في مساء يوم الصورة  أصرَّ سعدون على مشاهدة الفيلم مرة أخرى ولأننا كنا استنفدنا ما لدينا من النقود ولم  يكن بمقدورنا الدخول بتذاكر قررنا تسلق المستشفى الجمهوري. على سطح المستشفى كانت هناك نوافذ تشرف على الأقسام في الأسفل. مررنا على واحدة منها تشرف على المشرحة. رأينا جثة الغريق ممددة تحت نظرنا. لم أطل النظر الى الشكل الغريب المثير بتفسخه لكن صديقي سعدون زحف والتصق بالزجاج مواصلا النظر الى الأسفل
قلت له: ماذا تفعل
قال:  أتأمله
قلت:  ماذا يمكن أن تتأمل في جثة غريق
قال:  حكايته.. أريد أن أحكي حكايته

5
الحقيبة أمامي على الطاولة المعدنية واللحظة القديمة في الصورة المتآكلة تبعث من موتها الطويل في ذاكرتي أما سعدون سينما فقد تبدد في المحيط. تسلّق سياج مستشفى ليشاهد فيلما فرأى جثة وبدأ باستعادة حياتها، هذا هو كل ما فعله صديقي سعدون.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

أوليفييه نوريك يحصل على جائزة جان جيونو عن روايته "محاربو الشتاء"

مقالات ذات صلة

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو
عام

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو

علي بدرفي مدينة تتلألأ أنوارها كما لو أنها ترفض النوم، وفي زمن حيث كانت النجومية فيها تعني الخلود، ولدت واحدة من أغرب وأعنف قصص الحب التي عرفتها هوليوود. هناك، في المكاتب الفاخرة واستوديوهات السينما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram