TOP

جريدة المدى > عام > انتصار النَّص

انتصار النَّص

نشر في: 14 يونيو, 2014: 09:01 م

دائماً ما يكون الكلام عن أدباء العالم الثالث، وأدبائنا العرب بخاصة، حديثاً تتحكم فيه أحكام ورؤى الدارسين والمحللين الغربيين لأدبائهم او لعموم مبدعيهم. يمكن ان نتقبل هذا، لأن ثقافتنا النقدية الحديثة تعتمد على مصادر غربية، أوربية- أمريكية سواء عن طريق

دائماً ما يكون الكلام عن أدباء العالم الثالث، وأدبائنا العرب بخاصة، حديثاً تتحكم فيه أحكام ورؤى الدارسين والمحللين الغربيين لأدبائهم او لعموم مبدعيهم. يمكن ان نتقبل هذا، لأن ثقافتنا النقدية الحديثة تعتمد على مصادر غربية، أوربية- أمريكية سواء عن طريق الكتب المترجمة او ان أساتذة النقد درسوا في الجامعات هناك. وهذا أمر حسن وإضافة علمية نباركها. أيضاً يمكن ان نتقبل الحال بحساب ان هؤلاء مؤلفون، كتاباً او شعراء، مثل أولئك يعيشون في زمن واحد وعالم واحد.
لكن في تطبيقات تلك الأحكام والرؤى جوراً صعباً تقبله. الكتاب العرب، ولنأخذ كتابنا وشعراءنا العراقيين مثلاً، لا يخضعون الى تصنيف طبقي ولا الى مدرسة ولا الى مؤثرات يمكن الاقتصار عليها في الدراسة او البحث.
اجتماعياً، لم يكتمل تكوّن الطبقات عندنا. فليست لنا طبقة عاملة مؤثرة واضحة الحدود وليست لنا بورجوازية متكاملة البرجزة، لها ميراثها الحضاري وأخلاقياتها وثقافتها، ونعرف أساطينهم. وطبعاً ليست لنا طبقة رأسمالية يمكن الحديث الثقافي عنها وتوصيفها. الكتاب العراقيون، ومعهم العرب في الخليط المتكون من هذه كلها، وفي عدم النضج الطبقي عموماً.
فلو استطعنا ان نزيح أياً من مؤلفينا من خليطه الطبقي هذا ومن محصلة ايدلوجياته المتشابكة بنسب غير ثابتة، في القراءات والتثقيف، في العمل الوظيفي المكتبي والحضور الاجتماعي، في الحياة اليومية، وهي مزيج من الفلاحية القروية والمحلة الشعبية و العشائرية أحياناً...، إذن لشملت أسباب الإزاحة العديدين من أمثال هذا الذي اخترناه!
ان هؤلاء جميعاً، وبسبب من الأزمة الحاصلة في تواجد الطبقة، الجنس والإقليم والقومية ووضعهم الاجتماعي المدني...، ينحدرون لحدّ ما في الايديولوجية شبه البورجوازية التي لم تصف وهي ما تزال متمفصلة مع غيرها. نحن نرى اكتظاظ المضامين المتضادة والأمزجة المختلفة والتحولات السريعة والتقلبات في سلوك وقناعات شخوص الروايات، كما في انتباهات القصائد وما نراه في العنف المفاجئ او الرومانسية المفرطة في اللوحات.. وراء كل هذه عدم الاستقرار الثقافي أولاً وتعدد واختلاط الثقافات والقلق بين المدارس. فهذه كلها ضيّعت علينا رؤية العلاقات المؤسسة والفاعلة بين الحقيقة التاريخية والقيمة الجمالية.
انفعالية التجاوز هذه، وقد ذكرنا ما وراءها، لا تجعل الإنتاج يأتي سلساً وبمسيرة مريحة الى نهايته. هذا الانفعال، هذا الشدّ، هذا الجو غير الآمن، جعل من التغيير الجديد، في التقنية الجديدة، في المضمون الجديد، لا إبداعاً مضافاً بهدوء ولكن منحه صفة اختراق! فقد تمكن المؤلف فيه من الانتصار على قوى داخلية متصارعة لا في داخل المجتمع، هي موجودة أصلاً هناك، ولكن داخل الذات المبدعة!
من ناحية ثانية لهذه الاشتباكات الخفية فضل، فهي وراء متعتنا في الانتقال من ثيمة الى ثيمة او من جو الى آخر. هي انتصارات لما نحبّذه او ما نريده من مُزْدَحَم المشاعر والأفكار مما ورثناه، من المختلف المتنوع والمتضارب فينا.
عملية الاستيعاب، او المعايشة، تتواصل في متابعة نتائج عمليات الإنتاج النصّي. توالي المعاني والأفكار وخط سيرها يرسم المنحنى الايديولوجي للكاتب، كما ان توالي الأجواء وتحولات الشخوص الفكرية والعاطفية ترسم مزاجيته الطبقية الهجين..
صعب ان تجد بيننا من هو في فضاء ايديولوجي متّسق. صعب فصل ما يخالط خطه الفكري المُحَبّذ. في العمل الإبداعي حركة اختزالات لا تنتهي إلا بانتهاء النص. وهذا ما يمكن ملاحظته في القصائد العراقية. فهي ان لم تكن محاكاة في موضوعها وجوها لقصائد آخرين وتحمل إشكالات أولئك، او طبقيتهم وعموم الايديولوجيا السائدة، تجدها مزدحمة بالتقاطعات حين تكون خاصة محلية الانتماء. لا أظن أحداً يخطئ رصد هذه الظاهرة في عموم شعرنا الحديث. وهي ليست سبّة او عيباً قدْر ما هي نتيجة ما ذكرناه من تشابكات طبقية وثقافية، معها الرغبة في التجاوز او الإتيان بجديد.
أذكر مرةً، ونحن طلبة "سمنار" في لندن، وبعد زيارة لقبر شكسبير، سألنا أستاذ الشعر عن انطباعاتنا. قلت له كتبت قصيدة. طلب ان اقرأها. حين سمع ترجمتها، صعقني بحكم مزعزع، قال: نعم، ولكن مشاعر مختلفة! Yes, but different feelings. هذا يعني ان القصيدة لا تمتلك جوها الواحد المتميز، كما هو المطلوب من قصيدة. وقصد بالمشاعر المختلفة انها متضاربة غير منسجمة. لقد كانت ملاحظته درساً حقيقياً في الشعر!
ما أردت الانتهاء إليه، ان لواحدنا ميداناً باطنياً لاشتباك ثقافات، طبقية، وعرقية، وأحياناً ما له علاقة بالجندر لم تصفُ الى حال. ومثلها نرى ردود الأفعال..
الكتابة، لذلك، عمل نضالي ذهني ونفسي لاستخلاص الجمال وإظهارهِ منتصراً. ومن هنا تتأتى حالة الزهو التي تعتري الكاتب، او الشاعر او الفنان، حين يكمل عمله "الجديد" ويتمّ الانجاز! ان نهتم بهذا "الطريق" اعني طريق الإنجاز، يعني ان نهتم بما يزدحم في هذا الطريق، ومن خلال السيكولوجيا وارتباطاتها او من خلال الجو العام- المحيط البيئي والمدخر الثقافي المنوّع والمتضاد حتى نكون على مشارف السؤال الخاص بقيمة العمل وأهميته الحرفية والجمالية. إذن نحن نتفحص العالم الذي يتحرك فيه النص ليكتمل خط العمل، او الانجاز، هو خط النضال الفكري للكاتب، كما أوضحنا، ويرسم خط انتصار الجمال حين انتهاء الكتابة واكتمال النص. طبعاً العمل يكون أكثر سطوعاً وأكثر إسعاداً او حميمية لقرائه، حين يكون أكثر ملاءمة للمرحلة. الصراع المحلي يحمل ايديولوجيات الكاتب وهو يعمل. تواصل عمل الورشة الداخلية هو ايضاً تواصل التجاوزات التي تصنع للمستقبل أدباً مختلفاً هو الأدب المستقبلي بأفكاره وفنه لكننا بالتأكيد لا نستطيع تشخيص أدب المستقبل في وقتنا الحاضر، لان مفردات الصراع ومديات الانتصار والتحولات الثقافية غير محسومة وغير واضحة كلها لنا. نعم نستطيع الإشارة له، نستطيع التخمين.
أخيراً، مهمة الأدب اليوم هي ان يُحدث إثارات، ان يؤجج اضطراباً واصطدامات بين خليط ايديولوجيات وثقافات العصر، مما هو موروث ومكتسب والجديد الذي تزجه حركة الحياة، عبرها يواصل الأدب تقدمه، يواصل النص مسيرته الى الاكتمال. القارئ ينتظر الكشف، ينتظر اكتمال الرسم الجمالي الذي يرينا استمرارية الاختراق، يرينا انتصار النص!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

أوليفييه نوريك يحصل على جائزة جان جيونو عن روايته "محاربو الشتاء"

مقالات ذات صلة

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو
عام

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو

علي بدرفي مدينة تتلألأ أنوارها كما لو أنها ترفض النوم، وفي زمن حيث كانت النجومية فيها تعني الخلود، ولدت واحدة من أغرب وأعنف قصص الحب التي عرفتها هوليوود. هناك، في المكاتب الفاخرة واستوديوهات السينما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram