قال باراك أوباما إن الولايات المتحدة لن تمد يد العون أو تستجيب للتدخل في العراق، قبل أن تعالج الأطراف العراقية الأزمة السياسية وأسباب الفرقة فيما بينها. وبدا الرئيس الأميركي، وهو يستنتج أن ما جرى في الموصل ومواقع أخرى، يدلل على أن القوات العسكرية وال
قال باراك أوباما إن الولايات المتحدة لن تمد يد العون أو تستجيب للتدخل في العراق، قبل أن تعالج الأطراف العراقية الأزمة السياسية وأسباب الفرقة فيما بينها. وبدا الرئيس الأميركي، وهو يستنتج أن ما جرى في الموصل ومواقع أخرى، يدلل على أن القوات العسكرية والأمنية غير قادرة على القيام بمهامها الدفاعية، بسبب "الصراع الطائفي"، وافتقارها لعقيدة مشتركة تشكل حافزاً لها! ، وكأنه بهذا الاستنتاج البديهي، لمن احتل العراق، وفرض نفوذه عليه اعتماداً على اكثـر من مئة وخمسين الف عسكري، اطلع للتو على تقريرٍ من سفارته المكتظة بالأجهزة المخابراتية المتعددة ببغداد، أو من مبعوثي البيت الأبيض والخارجية الأميركية، أو المستشار المكوكي لنائب الرئيس بايدن!
ومن الأجدر أن نتجاهل جملة قضايا عقدية تتعلق كلها بالكيفية التي عالجت عبرها الإدارة الأميركية الأوضاع العراقية السياسية والأمنية خلال الولاية الثانية للمالكي، وهي تتفاقم، والقاعدة البيانية التي جرى الاستناد اليها، في تلك المعالجات. ويبدو مهماً أيضاً ان نتجاوز سلسلة الأخطاء التأسيسية، بدءاً من تحويل العمليات الحربية المشتركة التي قادتها الولايات الاميركية، مما قيل أنه "تحرير" الى "احتلال"، وما ارتكبه، في ظل ذلك الاحتلال المخلّ الذي قوبل بالرفض من القيادات العراقية، الحاكم المدني بول بريمر دون أن يأخذ بالاعتبار الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية التي تفاعلت مع سقوط النظام الدكتاتوري في ٩ نيسان ٢٠٠٣ . لأن تناول ذلك قد يشوش على ما هو آني ومُلِح في المشهد السياسي والأمني الذي تَشَكّل في العراق، منذ سقوط الموصل وقصبات أخرى في أحضان داعش والبعث والضاري والتنظيمات المسلحة المتطرفة والعشائرية الطائفية المنحى.
إن من المؤسف أن يبدو الرئيس الأميركي، وهو قائد "الدولة الأعظم" في هذا العصر المعولم بإجحاف، أمام العراقيين كما لو أنه لم يكن على خطوط التواصل والتماس مع الزعامات العراقية، المعنية بالأزمة والموكولة لها أسباب الحل، وخاصة رئيس مجلس الوزراء المالكي، وأقطاب المعارضة الشيعية والسُنيّة والكردية المناوئة لنهجه وسياساته الاقصائية الفردية المغامرة، التي جرى التحذير الصريح من عواقبها على العراق والعراقيين ومستقبلهما الآمن.
منذ انتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدة، صار معروفاً للقادة العراقيين، أو هكذا تبدّى لهم، أن التناقضات التي كانت تعاني منها السياسة الأميركية وتطبيقاتها اليومية في العراق، قد حُلّت، لصالح البيت الأبيض، بعد أن اصبح القرار بيد الرئيس، ولم تعد ثمة تجاذبات بين البنتاغون والخارحية، وبين السي آي أي والأف بي آي والبيت الابيض!
ويظل السؤال ذاته يفرض نفسه، بعد خطاب أوباما أمس الأول، حول مدى الانسجام والتفاعل بين مراكز القرار المتعددة في الولايات المتحدة حول ما يجري في العراق، وهل أن التباين والاختلاف فيما بينها، عاملٌ من العوامل الضاغطة سلباً على السياسة العراقية، والتي تنجم عن تعدد فحوى الرسائل التي تصل الى مركز القرار العراقي، أو تنوش أسماع أقطاب المعارضة الشيعية والسُنيّة والكردية؟
لقد غرقت البلاد في دوّامة أزمات، "ظاهرها" مواجهات طائفية، لكن جوهرها الواضح لكل ذي خبرة أولية في تحليل الوقائع والممارسات، كان يؤشر بجلاء الى نزوعٍ فرديٍ طاغٍ من رأس الفريق الحاكم، نحو اغتصاب السلطة، والتحكم بمفاصلها، وتجريف كل مرافق الدولة الفاشلة المتداعية لصالح هذا النزوع. وفي احد وجوهها السافرة، التي لم تكن خافية على أركان السفارة الأميركية وموفدي الإدارة والخارجية، هذا الاستشراء الفاضح والعلني للفساد الإداري والمالي، ونهب موارد خزينة الدولة، والتلاعب بالدستور، وتطويعه لما يخدم المطامع المذكورة . كما أن وجوهاً أخرى لانتهاك الشرعية الدستورية والعبث بالحريات الخاصة والعامة، وخلق مناخاتٍ تثير القلق والحذر بين المكونات العراقية، دون استثناء الشيعة من غير الممالئين، جرى تعميمها علناً، ولم تكن السفارة وخبراؤها في حالة عمىً عن وقائعها.
لكن ما كان يجري تناوله والتأكيد عليه، كما في خطاب أوباما الأخير، هو "الصراع الطائفي" لا غير، وضياع لغة التفاهم بين "الأطراف السُنيّة المعتدلة والقيادة الشيعية"!وكأن مواقف السيد مقتدى الصدر والسيد عمار الحكيم هي الاخرى تجسيدٌ لهذا الصراع الطائفي مع "القيادة الشيعية"! كذلك الأمر مع القيادة الكردستانية، والتيارات المدنية وتجليات المجتمع المدني والحراك الشعبي.
إن الإدارة الأميركية، التي تقف على رأس المنظومة السياسية الدولية، وهي تتعامل مع المشهد العراقي، وكأنها تتجاهل عن التباسٍ أو قلة معرفة بالمظاهر، أو تعمدٍ مقصودٍ لأهداف محددة، أن ما كان يجري وما يزال في العراق منذ سقوط النظام الدكتاتوري السابق، هو "صراع سياسي" بامتياز، على السلطة ومصادر النفوذ والامتيازات، وإن اتخذ التعبير عن هذا الصراع، طابعاً طائفيا مموهاً عنه بعناية بالغة، لتخدير القاعدة الاجتماعية، وإثارة الشكوك بين صفوفها من استهداف "موقعها في السلطة والقرار"، لغرض كسبها وانحيازها، وإضعاف الأطراف الأخرى من المكون ذاته، وليس للمكون الضد!
وبات واضحاً هذا المنحى في الصراع السياسي – المذهبي ، خلال الولاية الثانية للمالكي، الذي استحكم بمفاصل مقررة، وحجّم البرلمان، وضيّق على استقلالية القضاء. فالصراع السياسي على السلطة اتخذ منحىً يستهدف تكريس سلطة الفرد المطلقة، وتحجيم الأطراف الأخرى، وإضفاء مشروعية سياسية مذهبية على المالكي، بوصفه "مختاراً للعصر" تيمناً بمختارٍ محسوب طائفياً.
وتجدر في هذا السياق، إثارة انتباه الرئيس أوباما، الى مجرى تطور الأحداث، وطابع الأزمات التي لم تتوقف منذ تدشين المالكي لولايته الثانية، فهل كان في النهج السياسي والخطوات العملية لحكومته ما يصب لصالح الطائفة الشيعية، وتنمية مناطقها وتقديم الخدمات الضرورية لها، أو الارتقاء بمحافظاتها الى مستوى يليق بالبشر في هذا العصر؟
واذا اردنا استخدام بعض وسائل الإيضاح السياسي، للتأكيد على أن جوهر الصراع "صراعٌ على السلطة" داخل الطائفة الواحدة، قد يتعين علينا القول للسيد أوباما، أن كل الأطراف والمكونات في العملية السياسية والمجتمع، لم يكن لها اعتراض، ولن يكون لها ذلك في المستقبل، الا من حيث اعتماد قواعد النظام الديمقراطي، على تبوء الشيعة منصب رئيس مجلس الوزراء، ووفقاً للأكثرية البرلمانية، من حيث المقاعد المخصصة للمحافظات، فهذا المنصب، أو المراكز السيادية في الدولة سيكون في هذا الاطار. وحين يرتقي المجتمع وتتحضر الحياة السياسية، فإن الخيار سينصب على برامج الأحزاب والقوى البرلمانية، لكن أنصبة البرلمان ستظل تجسد القوة التصويتية المناطقية، وتعكس التوازن السكاني.
وهل ثمة وسيلة إيضاح اكثر دلالة على أن الأزمات المستمرة، واستفحالها، بشكل خاص منذ السنة الأولى للولاية الثانية، وحتى الآن بعد انتخابات شابها التشكيك المبين، تدور في "البيت الشيعي" حول رفض الولاية الثالثة للسيد المالكي. أفي هذا الصراع ملمح لصراعٍ طائفيٍ أم سياسي على السلطة؟
وكيف يمكن إدراج الأزمة التي تظل تنبعث ، كل ما أراد الفريق الحاكم تجميع النقاط في خانة الولاية الثالثة، مع رئاسة اقليم كردستان؟ أهي تجلٍّ آخر للصراع الطائفي..؟
واذا تجاوزنا هذين المظهرين للصراع ، فكيف نقرأ انحيازات أقطاب في المجتمع السُني، من وزراء ونواب ومحافظين ورجال أعمال، الى الفريق الحاكم؟
ان خطاب الرئيس أوباما بشأن الوضع المستجد في العراق، والمخاطر التي تستهدف النظام القائم فيه، يخرج عن سياقات الاهتمام الأميركي التقليدي، أو ادعاءاته حول رعاية "الديمقراطية"، ودعم "نضالات الشعوب والقوى المجتمعية" لتحقيقها، لتنحرف في اتجاه خلط الأوراق، لتبرئة ساحة واشنطن مما آل إليه الوضع، ليس بمعزل عن غض النظر عما كان يجري ولا يزال من قضمٍ مستمر لأبسط مظاهر الديمقراطية، وتجريد ما سُمي بالعملية السياسية من كل مضامينها، ووثوبٍ منظمٍ في مسعىً محمومٍ، تحت أنظار السفارة الاميركية والموفدين الدائميين للإدارة الأميركية ، لفرض واقع جديد على العراقيين، تتكرس فيه سلطة الفرد والعائلة المطلقة!
إشارة واحدة جاءت واخزة في خطاب الرئيس: القلق بشأن الإمدادات النفطية وطريقة تعويضها بنفط الخليج..!
أهذا هو مربط الفرس للسياسة الأميركية في العراق..؟