TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الجمال الغريب

الجمال الغريب

نشر في: 15 يونيو, 2014: 09:01 م

نحن نعرف أن المدرسةَ "التعبيرية" في الفن التشكيلي ظهرت في ألمانيا، مطلعَ القرن العشرين. وكانت تعتمدُ تقديمَ العالم المرئي عَبرَ منظور ذاتيّ خالص. ولذلك لا تلتفتْ إلى معايير المنظور الموضوعي: في الانسجام، والاتساقِ، والجمال الفيزيائي. التشويهُ وتحطيمُ الهارموني كانا وسيلتها إلى التعبير عن المعنى أو العاطفة الكامنين. ولذلك كانت الحافزَ وراء إعادة النظر في مسألة "الجمال" ومعاييره في الفن.
المعرضُ الجديد في متحف "الغاليري الوطني"، تحت عنوان "الجمال الغريب" The Strange Beauty، والذي ينصرفُ إلى مرحلة منسيةٍ نسبياً من الفن الألماني تعود إلى عصر النهضة، يؤكد بصورة غير مباشرة على أن عناصرَ "التعبيرية" هذه تعود إلى تلك المرحلة. أو على أن جذورَ "التعبيرية" هي ألمانية في الجوهر. مع أننا اعتدنا على نسبة هذه الجذور إلى الظرف التاريخي الذي أحاط بمطلع القرن العشرين.
هذا ما ورد على خاطري، لأن المعرض لم يُشرْ، أو يؤكد على ذلك. "التعبيرية" لم تقتصر على الفن، بل تجاوزته إلى الشعر والأدب والموسيقى. ولقد شغلتْني فترةً من حياتي، وأنا أكتب، وأنا أرسم، وأنا أتقرب من الموسيقى التعبيرية التي تفجّرت على يد "شوينبيرغ" ومدرسة "فيينا الثانية". وكأن هناك دافعاً داخلياً يحثني على ضرورة اكتشاف الهُوية الفنية لشخصي، كإنسان بالدرجة الأولى. هناك دائماً انحناء على الذات، وتأملٌ لرحيلها الداخلي. تأملُ المشاعر المتعارضة الغامضة. تأمل الطبيعة الشائكة للأفكار والمشاعر، التي لا تستقيم مع عناصر القياس السينتمترية المعتمدة. في التعبيرِ عنها يحتاج المرءُ إلى عنصر التشويه، في تكسير الخطوط، وإرباك التوازن، وتحريف الطبيعة. إلى التشويه، بتعبير أكثر جرأة.
حين كان عصرُ النهضة إيطالياً بامتياز، هيمنتْ معاييرُه الجمالية بالضرورة على عالم الفن. كان رفائيل، مايكل أنجلو ودافنشي.. هدفَ التطلّع الفني في عموم أوربا آنذاك. والسيرُ خلاف ذلك يُشكّل انحرافاً غير مرغوب فيه. الألمان، وعلينا أن لا نغفل عن أن ألمانيا لم تكن موحدةً آنذاك، كانوا على شيء من هذا الانشغال غير المرغوب. ومعظمُ الأعمال التي خرجت من القرنين الخامس والسادس عشر تعرضتْ لتساؤلات "علم الجمال"، بالرغم من أن فنانين من تلك المرحلة مثل "دورر"، "هولبين" و "كراناتش" كانوا أسماء لامعة. هذا المعرض يقدم نموذجاً لهذا، وكيف تعامل "الغاليري الوطني" نفسُه بارتياب وعدم رضا مع هذا النتاج في سنوات تأسيسه عام 1824. لقد رفض أن يضمَّ أعمالاً عديدة من هذا النتاج بفعل قباحتها، وعدم انسجامها مع معايير الجمال المألوفة. ولقد فجّرَ هذا الموقفُ اتجاهين متعارضين من ردود الأفعال.
من عناصر التشويه التي شكّلت قبحاً عند بعظهم: الأجسامُ الضامرة، الأطرافُ غير السويّة، الأوجهُ المجعدة، الهيئات الباردة البشرة وسط طبيعة أشد برودة، نشافُ العاطفة، مع نزعة دقيقة في التفصيل الذي يعتمد التحريفَ واختلالَ التقنية. ولأن المعرضَ ذو توجّه تثقيفي، شأن أكثر معارض "الغاليري الوطني"، فلقد خُصصت القاعة الأولى للأعمال التي تنسجم ومعايير عصر النهضة الإيطالي، وقد تصدّرت بلوحة رفائيل، من أجل استثارة الإحساس بالمفارقة. لتليها لوحات النزعة التعبيرية الألمانية الأكثر تأثيراً: مشاهد صلب المسيح، ولوحات البورتريت.
في لوحة الفنان "هولبين" الشهيرة "السفراء"، رغم رشاقتها الواقعية، إلا أنها تُخفي أكثر من إشارة غرائبية. خاصةً مشهد الجمجمة أسفل اللوحة، التي لا يمكن أن تلفت نظر المشاهد لشدة التحريف فيها، إلا إذا نُبّه للنظر إليها على مبعدة من يمين اللوحة. وكذلك مشهد المسيح المصلوب الموارب من طرف الستارة. أما لوحة "بورتريت امرأة من عائلة هوفر"، وهي لفنان مجهول، فيُدهشك مشهدُ الذبابة السوداء الكريه وهي تستقر على الخمار الأبيض، الملتف بأناقةٍ بالغة حول رأس السيدة الموقّرة. ولعل الفنان "كراناتش" هو الأكثر إمعاناً في زعزعة عناصر التناسق.
النزعةُ التعبيرية في هذا "الجمال الغريب" لا تُفسد الذائقة، كما نتوهم، بل تمنح أكثر من رئة لأنفاس الدراما الداخلية. وهي التي يصلح عليها مُعتقد أرسطو الذي يرى بأن الدراما سبيلٌ ناجح لتطهير النفس.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram