لم تعد حروب الطوائف صفحة من صفحات التاريخ القديم بل هي تنبثق اليوم وكأنها تنفض التراب عن قبورها وتستبدل أكفانها البيض بالأزياء السوداء وسيوفها بالأسلحة الحديثة، ويجري الاصطفاف في كل طرف من أطرافها على أساس الخوف من الطائفة الأخرى وانعدام الثقة بين مكونات المجتمع الواحد.
يحيل بعض الباحثين (منهم الألمانية حنّا أرندت) إلى أن أس العنف المحلي يعود إلى سوء إدارة التنوع الإثني والديني والطائفي وعدم إقرار القوانين وإشاعة ثقافة التعايش واحترام التنوع، وتؤكد أرندت على أن الدولة المدنية الديمقراطية هي المؤسسة القانونية الوحيدة المؤهلة لرعاية مواطنيها المتنوعين وحماية حقوقهم الأساسية التي يكفلها دستور مدني متحضر.
يندلع العنف الطائفي، بمختلف أشكاله ودرجاته، عندما يشعر مكون ما بأنه مهمش أو مسلوب الحقوق أو ممنوع من المشاركة السياسية.
ثمة نوع من العنف الذي يندلع في المجتمعات التي تحكمها الدكتاتوريات، خصوصاً عندما تشعر السلطة بخطر أعدائها وسائر المعارضين لسياستها، أي أن العنف يكون متبادلاً بين الطرفين: السلطة ومعارضيها، ليكون الظفر في نهاية المطاف للسلطة بحكم اختلال موازين القوى لصالح الأخيرة، على أن عنف السلطة لا يقتصر، دائماً، على مناوئيها المسلحين بل قد يطال حتى بعضاً من عناصرها ومؤيديها وحتى عدداً من قياداتها (الستالينية في روسيا والصدامية في العراق مثالان لا غير).
لكن للعنف الطائفي شروطاً خاصة، رغم احتمال ضلوع السلطة فيه طرفاَ أساسياً أو ثانوياً، ومنها إنه عنف على شكل حرب أهلية بين طرفين أو أكثر، حسب التقاء أو افتراق المصالح الخاصة بكل طرف، وهذا الشكل أحد أخطر أشكال العنف التي تهدد حياة شرائح واسعة من السكان المحليين.
ينتعش العنف الطائفي في المجتمعات غير المستقرة سياسياً، وهنا أيضاً يكون نوع الدولة القائمة هو المسؤول الأول والسبب الرئيس الذي يؤدي إلى الاقتتال المحلي عندما تتبنى هذه الدولة منهجاً طائفياً لصالح طائفة محددة يجعلها ممثلة لهذه الطائفة ومنحازة لها، طبعاً، على حساب طائفة، أو مجموعة طوائف وتجمعات ومكونات أخرى، لتنعم نخبة معينة أو طبقة من الموالين والمقربين من الدولة، طائفياً، بشتى الامتيازات والنعم والخدمات بينما تحرم من هذه الامتيازات ليس الطوائف المهمشة فقط، بل أعداد غفيرة حتى من أبناء طائفة الدولة القائمة: فقراء الطائفة الحاكمة: فقراء الشيعة في إيران والعراق والعلويين في الشام وغيرهم.. أي أن دولة الطائفة هي دولة فاشلة ليس على الصعيد السياسي والقانوني والأخلاقي إنما على الصعيد الإداري المتعلق بتوزيع الثروة وتوفير الخدمات الأساسية المتنوعة في الصحة والتعليم والعمل والأمن وغيرها.
تهدد الحرب الأهلية، مثل أي صراع محلي مسلح، سلامة المجتمع بأسره، وصولاً إلى السيادة الوطنية، خصوصاً بعد التدخل الإقليمي إلى جانب المسلحين أو الإرهابيين المحليين أو الأجانب، فتتصاعد الدعوات، حقاً أو باطلاً، للدفاع عن الوطن بنبرة عاطفية عشائرية متبّلة بأهازيج وأناشيد وهتافات إعلامية وتلفزيونية، وتستنجد الحكومة بالمتطوعين من المدنيين بعد هروب قادة الجيش وكبار ضباطه من ساحة المعركة، وعند هذا المحور يطرح سؤال الولاء الحقيقي للوطن والدولة والحكومة: كيف يقاتل مواطنون مسلوبو الحقوق ومسروقو قوت يومهم
وثروات بلدهم على يد حكام لصوص وجشعين وانتهازيين لا تهمهم سوى مصالحهم وامتيازاتهم.. أي كيف يدافع الجنود والمتطوعون عن دولة لا يثقون بها وعن وطن ممنوع على أحلامهم الصغيرة في العيش كبشر طبيعيين حفظت لهم الدولة حقوقهم ولأبنائهم مدارسهم ولمنفييهم ومهاجريهم كرامتهم كمواطنين فخورين بوطنهم بعد الخلاص من الدكتاتورية والقمع؟
الدفاع عن الوطن معركة لا تتجزأ وهي على جبهتين: شن الحرب على الطائفية والطائفيين والفاسدين والمهزومين لتأمين جبهة داخلية متينة ظهيراً لقوات مسلحة مهنية وقادرة على خوض الحرب المسلحة ضد الإرهاب والمتحالفين معه.
ملوك الطوائف وحروبهم
[post-views]
نشر في: 16 يونيو, 2014: 09:01 م
جميع التعليقات 2
سعاد حميد هندي
مقاله رائعه ودقيقه في التشحيص
kais latif
كلام موزون وموضوعي , يتناسب وخطورة المرحلة التي يعيشها وطننا العراق ... أحيي حياديتك وتجردك في تناولك لهكذا موضوع , ولا يفوتني أيضاً وطنيتك الصادقة .