د. جواد بشارة - باريس jawadbashara@yahoo.fr غرقت السينما التقليدية في عالم الرتابة والتكرار في أواخر خمسينيات القرن الماضي ثم دخلت مرحلة تحول جمالي جوهري، وقد أدت أشكالا جديدة للتعبير السينمائي إلى تفجير البنى الجمالية التقليدية للسرد الفيلمي.
فالمدارس الواقعية تشددت وتطرفت في خطواتها ومسيرتها كردة فعل على الاضمحلال الجمالي والغرق في الأوهام الذي بثته السينما التقليدية. ففي بريطانيا ظهرت مدرسة " السينما الحرة" وفي كندا ظهرت مدرسة " السينما المباشرة" مع ريشار لوكوك وبيير بيرو والأفلام الأولى للمخرج جون كاسافيت ، والحال ذاته يمكن ملاحظته في كل مكان في العالم حيث ظهر مخرجون جدد يستكشفون ويجربون بحرية وجرأة أساليب سينمائية مغايرة ومتنوعة ومختلفة لم تكن معروفة أو مألوفة لدى المشاهدين حتى ذلك الوقت، رابطين بين الواقع واكتشافات المونتاج السينمائي وإمكانيته الثرية إلى جانب الجمال الباروكي مثلما بدا واضحاً في آثار المخرج البرازيلي غلوبير روشا وخاصة فيلمه " الإله الأسود والشيطان الأشقر" الذي أخرجه سنة 1964. كما ظهرت " سينما الشعر " "والسينما الشعرية" حسب تعبير المخرج والكاتب والشاعر الإيطالي الراحل بيير باولو بازوليني الذي كان يكتب ويخرج باسم المتحدث الشخصي بصيغة الشخص الأول وانتشرت تلك الموجة في تخوم بولونيا الشيوعية كما بدت في أفلام السينمائي المجدد جيرزي سكوليموفسكي وهو مخرج شاب ذو مواهب متعددة سرعان ما اكتشفها غودار وقدرها حق قدرها. أما في إيطاليا فكان هناك المخرج الرائع والمرهف مايكل أنجيلو أنطونيوني ذو الشخصية القوية يتربع على قمة المشهد السينمائي ويقدم شكلاً دراميا جديدا للإخراج السينمائي مع أفلام صارت من كلاسيكيات السينما المعاصرة كفيلم " الصرخة" 1957 وفيلم " المغامرة" 1960 وفيلم " الليل" 1961 التي نرى فيها طرحاً مختلفاً ومقاربة جديدة ومفهوماً جديداً للبطل والحركة والزمن السيكولوجي أو النفسي حيث يتموضع المخرج أنطونيوني الذي تميز بعالمه السينمائي الفريد، ضمن ميراث الرواية المعاصرة لسنوات الخمسينيات والستينيات الوصفية والمضادة للسيكولوجيا، عندما صور غودار رائعته السينمائية المعدة عن رواية الروائي الإيطالي الجريء البرتو مورافيا، والذي يعتبره الكثيرون الرائد الأول للموضوع السينمائي عن اللااتصال وانعدام التواصل ، ولنتذكر كمثال الجزيرة النائية في فيلم "المغامرة" لأنطونيوني بصخورها المتناثرة والمشاهد الطويلة عن الخصومات العائلية والزوجية وسوء التفاهم في الزيجات الشكلية كما في فيلم " الليل " لأنطونيوني ، حتى لو كان فيلم غودار " الاحتقار" عبارة عن تكريم لأسلوب وعالم مخرج إيطالي آخر لايقل عبقرية وإبداعاً وتجديداً هو المخرج الكبير روبيرتو روسيلليني ، وعلى نحو خاص فيلمه " رحلة في إيطاليا" . كما شهدت السينما الفرنسية محاولة لكتابة سينمائية جديدة مدموغة بطابع ونظريات الرواية الجديدة كما تدل على ذلك الأفلام الأولى للروائي والمخرج السينمائي الفرنسي آلان روب غرييه مثل " الخالدة" 1963، وتعاونه مع المخرج آلان رينييه ككاتب سيناريو في فيلم " العام الماضي في مارينباد سنة 1961" وهي سنة التحضير لفيلم " الاحتقار" لغودار. والمعلوم أن آلان رينيه تعاون مع روائيين كبار مثل جون كيرول لكن الفيلم الأكثر تجديداً وتميزاً في هذا الاتجاه الجمالي هو فيلم " مورييل أو زمن العودة" من إخراج آلان رينييه الذي سنأتي لتحليله لاحقاً بعد تحليل فيلم الاحتقار لغودار، والذي أحبه وقدره كثيراً غودار وكان معجباً به اشد الإعجاب والذي استلهم منه لقطاته الخاطفة في إخراج الاحتقار وأسلوب المونتاج القصير. وفي مجال العلوم الإنسانية والنظريات الأدبية طرحت مدرسة البنيوية والأبحاث الأنثروبولوجية لكلود ليفي شتراوس ـ الذي توفي قبل أيام في باريس في 3/11/2009 ـ التي قدمت للجمهور الواسع وغير المتخصص تجاوزت أطر الحلقات الضيقة للقراء المحترفين والنخبة المثقفة. أي أن المشروع الجمالي لفيلم الاحتقار لغودار تأثر بدوره بهذا المناخ الفكري والثقافي والجمالي الإبداعي المتحرر الذي رسم نهاية السينما الكلاسيكية ومهد لظهور بدايات السينما الجديدة آنذاك وانبثاق أشكال جديدة ثورية للسرد والتعبير وجدت من يتلقاها ويتلقفها ويؤيدها من الجمهور المشبع بالأفكار والأساليب الجمالية والتعبيرية الجديدة. من هنا فإن فيلم الاحتقار كان بلا أدنى شك فيلماً معاصراً في ذلك الوقت بكل المقاييس حيث أن كتابته وأسلوبه يمكن أن يخدشا النقد المعتاد على أشكال أكثر تقليدية في المونتاج ومع ذلك فهو فيلم معاصر يتضمن بعض إغراءات النزعة الكلاسيكية في التعبير الفني أي أنه الفيلم الأكثر كلاسيكية والأكثر سردية في آثار غودار السينمائية حيث الأمانة للنص الروائي المعد للشاشة واضحة للبيان وتنطبق عليه معايير الإعداد السينمائي المتبعة في السينما الهوليوودية في مجال الإعداد الأدبي للنص الروائي للس
كـــيــــــف نــقــــرأ فـــيـــلــــمـــاً (2)
نشر في: 25 نوفمبر, 2009: 05:14 م