هكذا مرّ الصباح وأنا أنتقل من شارع الى شارع ومن جادة الى أخرى في باريس بحثاً عن البيت الذي عاش فيه زعيم المدرسة الرومانتيكية في الرسم يوجين ديلاكروا ، هناك حيث مرسمه الذي رسم فيه أعظم وأهم أعماله ، بيت الرسام الذي كان يفاخر به دوماً وبحديقته الرائعة التي يطل عليها ذلك المرسم .
أن أبحث عن مكان رسام بشهرة صاحب ( الحرية تقود الشعوب ) فهذه مسألة فيها الكثير من التشويق والمتعة ، لكن أن أَمرَض بسبب هذا الفنان المدهش ، فهذا ما لم أكن أنتظره أبداً ، والمسألة بدأت حين هطلت أمطاراً كثيرة وأنا في الشارع أبحث عن بيت رسامنا الرائع ، حتى أصبت بنزلة برد بسيطة بعد عودتي الى الأستوديو الذي استأجرته من أمرأة باريسية لمدة أسبوع . بدأت أبحث عن أي مكان يقيني المطر المتساقط بقوة ، حتى لاحت لي مقهى فلور القريبة من المكان ، فدخلت بسرعة هناك وأنا أبدو مثل قط أنتشلوه تواً من بحيرة عميقة . طلبت فنجان قهوة وأنتهزت الفرصة لأسأل النادل عن الزاوية التي كان يجلس فيها بيكاسو وباقي مشاهير باريس في هذا المقهى المعروف ، فقال ضاحكاً ، ( نعم هذا حدث قبل ولادتي بالتأكيد ، عموماً الجميع يعرف أن بيكاسو واصدقاءه كانوا يلتقون هنا ومنهم أخذت المقهى شهرتها إضافة الى عباقرة فرنسا الآخرين مثل سارتر وسيمون دي بوفرار ) .
كان البيت قديماً ويعود طرازه الى بدايات القرن التاسع عشر وقد أبتدأ بباحة كبيرة تؤدي الى الباب الرئيسي حيث أمرأة تستقبل الزوار وتقدم لهم أكياس من النايلون مخصصة لوضع مظلاتهم المبللة بفعل المطر . أجتزت السلّم ودخلت الصالة الأولى التي كانت مخصصة لأعماله الطباعية على الحجر التي رسمها لأعمال شكسبير ، حيث نرى هاملت وعطيل وهم يسردون حكاياتهم . كانت الكليشهات معروضة أيضاً والأعمال المطبوعة الى جانبها وكل ذلك يشير الى فنان فذ وتقنية قلّ مثيلها . الغرفة الثانية كانت تتوزعها الطاولة التي كان ينفّذ عليها تخطيطاته وبعض مقتنياته التي جلب الكثير منها أثناء زيارته الى الجزائر، وحتى باليتات ألوانه كانت موجودة ، وكانت واحدة منها – كما هو مثبت تحتها – قد أستعيدت من متحف اللوفر . بعد الغرفة الثالثة التي كانت مليئة باللوحات والمقتنيات الأخرى كان هناك سلّم آخر في الجانب الخلفي من البيت ، ينزل نحو الأسفل ويؤدي الى المرسم والحديقة ، كان مرسمه كبيراً جداً وجدرانه عالية وشبابيكه تطل على الحديقة التي كان يحبها كثيراً . على جدران المرسم تنتشر لوحاته الكبيرة ويبرز وسط المرسم حامل الرسم الذي كان ينفّذ عليه أعماله وقد وُضِعَ عليه بورتريته الشخصي ، هذا البورتريت الذي ذكرني بما قاله أحد النقاد الفرنسيين ( وجه ديلاكروا القوي والجميل يشبه وجوه النمور التي كان يرسمها ) ، تجولت في المرسم الواسع وجلست على أريكة أتأمل الأعمال والجدران والمحتويات التي لامستها أصابعه المبدعة وأنا أراقب الناس الذين يتجولون في المكان الذي حولته بلدية باريس الى متحف وطني لفنانها الخالد ، قبل أن تطبع أحدى لوحاته على عملتها .
بقي أن أقول أن ديلاكروا هو الفنان الذي ينتمي الى المدرسة الرومانتيكية في الرسم وقد أثّر كثيراً على أغلب الرسامين الذين جاءوا بعده بما فيهم الأنطباعيين . وهو كان أبن غير شرعي لوزير فرنسي لم يعترف به أبناً . كانت شخصيته قوية جداً مثلما كان يحب الحياة ومتعها ، وقضى حياته مولعاً بالنساء بشكل خاص ، وكان يتعامل معهن في الغالب من خلال حب غير بريء وحكايات مستعارة ومنتحلة ، ومعروف عنه أنه قد أقام علاقات عاطفية مع أكثر من مئة أمرأة من بينهن الكاتبة الشهيرة التي كانت تكتب بأسم مستعار (أيضاً) جورج صاند .
البحث عن بيت يوجين ديلاكروا
[post-views]
نشر في: 20 يونيو, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...