لا أرغب أبداً في الكتابة في موضوعات السياسة، أكرهها ! صحيح ان هذه عواطف أدبية وليست مبادئ علمية ولا تناسب العصر، ولكن هي هذي مشاعري. فأنا راسخ الشكّ بنظافة الأسباب المُعْلَنة وبنوايا الأسماء رؤساء، جَنرالات أو مؤسسات إعلام خادمة. المؤسسات الإعلامية و
لا أرغب أبداً في الكتابة في موضوعات السياسة، أكرهها ! صحيح ان هذه عواطف أدبية وليست مبادئ علمية ولا تناسب العصر، ولكن هي هذي مشاعري. فأنا راسخ الشكّ بنظافة الأسباب المُعْلَنة وبنوايا الأسماء رؤساء، جَنرالات أو مؤسسات إعلام خادمة. المؤسسات الإعلامية ورش جديدة، عصرية جداً، لصناعة الخداع والإيهام مما تحتاج له البرامج السياسية ، نعم هو عمل له إيجابيات ولكن له شرور والجميع ، بدرجاتهم، يريدون مالاً ليعيشوا ومالاً أكثر ليعيشوا أفضل أو لمزيد من الهيبة والزهو.. وهنا يعمل الذكاء لإيجاد معنى لهذه الخدمة أو للعمالة! وهكذا توظف السياسة الدولية شبكاتها..
نعلم جيداً ما حصل في العراق. ونتذكر أرتال الدبابات الأمريكية. الأسباب المُعْلَنة معروفة والمُضْمَرَة تكشَّفَ أكثرُها وبقيتُها ستبقى سرّاً حتى ترفع وزارات الخارجية اليدَ عن الوثائق!
في العدد كانون الثاني- شباط من مجلة Foreign Affairs، كتب روبرت كيتس Rober Gates سكرتير وزير الدفاع الأمريكي عن برمجة البنتاغون الدفاعية للعصر الجديد، فتحدث عن التدخل الأمريكي في العراق وأفغانستان في مجرى حديثه عن التوازن الدولي. لا أريد التوقف عند مقاله ولكن مسألة فيه استدعت الكلام.
هو يقول:"ان قدرة الولايات المتحدة على التعامل مع تهديدات المستقبل تعتمد على ما تحققه من نصر في الصراعات الحالية..." ويقول في ذلك المقال: "سيكون من عدم المسؤولية ألاّ تفكر بالاستعداد والتهيؤ للمستقبل. وان أغلبية البنتاغون، الخدمات، والصناعة العسكرية مدعوّة لأن تفعل ذلك. يقصد التهيؤ العسكري للمستقبل.
ويقول أيضاً: "يجب ان ننشغل جداً في الاستعدادات للمستقبل وللصراعات الستراتيجية ولا نتوانى في مسألة وضع كل الإمكانات الضرورية لنقاتل ونكسب الصراعات القادمة ومثلما تفعله الولايات المتحدة اليوم"!
والغريب ان الكاتب المحترم سكرتير وزير دفاع اكبر دولة في العالم، يقول الاستعدادات هي لتعزيز برامج التسليح الحديثة الضرورية وان ميزانية قسم الدفاع و الصناعة العسكرية واهتمامات الكونغرس...، قد انحسرت كثيراً!
لا تعقيب لي على علمية وواقعية الاستعدادات الأمريكية للمستقبل. فهي برامجهم وأهدافهم ويعرفون مستلزماتها. لكن مجملها يؤكد ما كنا نشكّ فيه من نزوع للهيمنة على العالم. وصار واضحاً لماذا الحروب ولماذا الاستعدادات ولماذا الحديث عن زيادتها وتطويرها. أن أكون أمريكيا وطنياً- قومياً- ذا ثقافة عامة، يوميه، قد ارتضي هذه الحماسة. فأنا مقطوع عن الثقافة الجديدة والتوجه الإنساني للعصر. ولكن أن نكون متمتعين بوعي وبشرف أنساني وإيمان في حق الناس بحياة سليمة للبشر على الأرض المشتركة، فسرى البهاق على جلد المتكلم وسوف لا نشعر بالارتياح لحمى الاستعدادات الحربية! لماذا هذا الهوس بالسيطرة على عالم المستقبل والجاهزية للصراعات وكسب صراعات اليوم لتمهيد الطرق الى الانتصارات القادمة؟
ويستمر كاتب المقال: "لا تستبعد الولايات المتحدة أن تعيد تجربتي العراق وأفغانستان. وان القوات الأمريكية المسلحة قد تلبّي نداء الأمة الأمريكية بالنار في أي وقت. وأنها: يجب ان تواجه التحديات المشابهة في مناطق مختلفة من العالم.."
حتى الآن مازلت صبوراً أقرأ المقال بهدوء واحترم ضرورات الأمن القومي الأمريكي ولكني استغرب بل أشمئز من هذا الهوس والإصرار المطبق على العقل العسكري بضرورة كسب الصراعات بالنار وبالاستعدادات وبمزيد من الحاجة لقوى أكثر تطوراً وان أكبر الصراعات قادمة! لماذا لا يرِدُ أدنى تفكير بتحقيق تلك الأهداف بطرق يؤدي فيها العقل المتطور والأفق الحضاري الواسع دوراً في حرف التفكير عن هذا النهج؟ لماذا تظل هذي الباب مغلقة؟ وبعيداً عن السياسة الدولية وإرثها، قريباً من الإنسانية النظيفة والثقافة، لماذا لا يجري التفكير، لا ترسم الخطط، لحل الإشكالات في العالم وإراحة الشعوب بتوفير مفردات التمدن والتثقيف وحفظ المصالح بما فيها مصالح الولايات المتحدة بالإسهام في التطور الاجتماعي لتلك البلدان بدلاً من الاستعدادات الحربية ومزيد من الاستعدادات لإخضاعها؟ لماذا لا تعتمد المصالح المشتركة مبادئ عملية جديدة للفعل السياسي؟ ومن الدول تهدد أمريكا إذا كانت لا تريد المزيد من الهيمنة والسيطرة والتوسع من غير تفكير بحيف وخسارات الشعوب او بمصائر الأفراد جرّاء هذه الخطط الجهنمية والشراهة الجنونية في استهداف الدول أو خنقها أو الإضرار بأمنها المستقبلي؟ هل توقَّفَ العقل البشري عن التفكير بسعادة الشعوب وسعادة أمريكا بالإفادة المشتركة من الثروات والسعي لتحقيق ضمانات إنسانية لسلامة أمريكا وسلام العالم؟ لماذا لا يتغير نمط التفكير السياسي؟
فأن توضع برامج لحل مشاكل الشعوب في أوطانهم، أن يتم التعاون والإفادة بتفهم إنساني مشترك وان يصحب الجدوى العامة مسعى جاد للتعاون المتبادل والاستثمار المشترك ورعاية مصالح الدول، ذلك أولاً اضمن لسلامة المصالح وسلامة دائمة! كما هو أفضل اخلاقياً واقتصادياً من الاستغلال الجهنمي وإضاعة أكثر من نصف المستغل على الصناعة العسكرية والتدمير البشري. هو أفضل من الهيمنات والمطامع القلقة التي لا تنتهي ومن التحايل على كسب المزيد من المواقع الستراتيجية ثم الاستعدادات للمجابهات المسلحة، وربما المدمرة، القادمة!
ثمة نمطية في التفكير السياسي ينسحب فيها العقل الثقافي الإنساني الحديث من منطق السياسة ليحل الفكر الإقطاعي في الثقافة السياسية.
ليس لنا غير الثقافة منفذاً من همجية التفكير هذه. نعم، نحن لا نمتلك سلاحاً يقاوم الأسلحة التدميرية ولكننا نستطيع إحداث تغيير في الفكر الذي يوجه الأسلحة!
في الأخير، ألا يدعو للسخرية، بل للأسف الشديد، قول الكاتب سكرتير وزير الدفاع:
"لتحقيق نصر حقيقي في العالم، تحتاج الولايات المتحدة الى قوة عسكرية قادرة على خلع الباب وتدمير المبنى وقوة مماثلة قادرة على مسح الأنقاض وإعادة البناء من بَعْد..."
أترك هذا الكلام بلا تعقيب!