لا يبدو ممكناً لأي مراقب لما يجري في الإقليم، أن يحرف نظره ولو قيد شعرة، عن البعد الطائفي للحروب المُستعرة في سوريا والعراق، والمُرشحة للانتقال سريعاً إلى جوارهما، حيث الأرضية مهيأة والتربة خصبة، وتجار الحروب والسياسة ينتظرون على أحر من الجمر اندلاع الشرارة التي ستحرق الأخضر واليابس، في الكويت والسعودية والبحرين ثمة نار تحت رماد الطائفة الشيعية، وفي سوريا والعراق أشعلت عواصف الطائفية نيران الطائفة السنية، وفي الجوار المسلم غير العربي يؤيد العلويون الأتراك الرئيس السوري باعتبار انتمائه إلى طائفتهم، وفي إيران يتململ السنة منكرين على حكامهم ما يلاقونه من تهميش، مبني على أساس الانتماء المذهبي، وفي كل واحدة من دول المنطقة ثمة شعور بالتهميش والإقصاء عند الطائفة التي تشكل أقلية، ما يدفعها للبحث عن تحالفات عابرة للحدود، تشد أزرها بدول محكومة من نفس طائفتها.
داعش هي التعبير الأكثر جلاءً، والاهتمام بها يتنقل على وقع المعارك التي تخوضها على عدة جبهات، وهي تنكر الانتماء الوطني وتزدريه، فيما تعتبر الانتماء القومي مهزلة لابد من التخلص منها، ولذلك تضم في صفوف مجاهديها أنماطاً من الخلق، التحقوا بصفوفها من كافة أنحاء العالم، باعتبار انتمائهم إلى "أمة الإسلام"، وقيادة "الدولة" تلعب بذكاء على كل انقسام سياسي في كل بلد على حده، فهي في العراق تتحالف مع بقايا بعثيي صدام ضد "الحكومة الصفوية"، لكنها في سوريا تحارب "النظام البعثي العلوي"، وجاهل من لا يدرك لعبتها في عقد التحالفات، ثم الانقضاض عليها حد الاستعداد لمحاربة جبهة النصرة، مع أن الفصيلين ينهلان من فكر القاعدة التي انشقت اليوم، وبما يذكر بانشقاق البعث بين بغداد "السنية" ودمشق "العلوية"، وقد كان بينهما ما صنع الحداد.
مؤكد أن الطائفي غير قادر على التحرر من انغلاق فكره على ثوابت يعتبرها ربانية، ويؤمن بانتدابه لتحقيق رسالتها، وهو بذلك لا يملك غير لغة السلاح للحوار مع الآخر المُختلف، والمتهم بالخروج على قواعد الدين، وإذا كان البعض يستعيد اليوم تفاصيل الخلاف على الخلافة بعد موت الرسول، وما نجم بعد ذلك من حروب، ويسعى لاستعادة الحكم "لأصحابه"، فإن آخرين يؤمنون أن هؤلاء خارجين على قواعد الشورى ويبتدعون في الدين، " وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"، وعلى وقع هذه الخلافات تنهض داعش لتعلمنا أصول الدين كما تفهمه، وليس كما هو أصلاً، والهدف سياسي دائماً ومصلحي، يتعلق ببناء دولة جديدة تتجاوز الحدود القائمة، فتقتطع من الدولة العراقية الموصل، لتكون درة تاج دولة الخلافة الاسلامية التي تضم حلب، وما بينها وبين الموصل من ثروات، تمنح "أمير المؤمنين" حق الحكم، والتأثير الفاعل في مصائر المنطقة، القابلة لإعادة رسم خرائطها على وقع نداء الله أكبر.
الطائفية داء، يبدو أن على جيلنا والأجيال القادمة تجرع كأسها حتى الثمالة، ما لم تتوحد قوى الاعتدال، المؤمنة بحق الإنسان في اختيار معتقداته، والمعتنقة لمبدأ الحوار العقلاني، المنفتح على قبول الآخر دون اعتداء على قناعاته، ومالم تتم تنحية كل تجار السياسة، الذين يتسلقون سلم الطائفية لتحقيق مآربهم، وما لم تتخلص المنطقة برمتها من سطوة الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، وهو في حقيقة الأمر أصل كل بلاء، والمثير للأسى أن بعض " المثقفين " يرفعون اليوم أعلام الطائفية ويستظلون بظلها، وأن بعض أهل اليسار تخلوا عن قناعاتهم، للانضمام إلى الجوقات الطائفية، بضراوة تُمليها عليهم رغبة الإقناع بانتمائهم الجديد، وأن بعض القوميين نزعوا أرديتهم "البالية" لارتداء عباءة الطائفية، لتحقيق مكاسب شخصية وآنية، بغض النظر عن ما ينتج عن انقلاب هؤلاء جميعاً من ندوب في جسد المنطقة وساكنيها.
كأس الطائفية حتّى الثمالة
[post-views]
نشر في: 21 يونيو, 2014: 09:01 م