تستعاد، هذه الأيام، أبشع وسائل إعلام الدولة الشمولية التي سقطت لكن دولة المحاصصة القومية والطائفية تخوض حروبها ضد الأعداء المتنوعين، في مقدمهم "داعش" التافهة وحلفاؤها الأكثر تفاهة، وفق تلك الوسائل، بل أن نشاط إعلامنا الحكومي يعيد إنتاج أهازيج حرب "قادسية صدام" بطبعات رديئة وينبري بعض نشطاء إعلام الحكومة المالكية لدعوتنا أن نتجحفل مع القوات الأمنية "دفاعاً عن الوطن" ولا يتردد هذا البعض من مطالبة المثقفين بأن يرموا خلف ظهورهم أخطاء وخطايا الحكومة الحالية بذريعة الوقوف بوجه التهديدات الخطيرة للوطن وسيادته.
إنْ هي دعوات إعلام صدام حسين نفسها، للأسف، أثناء حروبه العبثية ومعاركه القومية الزائفة، والتي يقصد بها صدام حسين شخصياً عندما يتحدث عن الوطن: الوطن = صدام وصدام = الوطن في أقبح اختزال للوطن وأكذب ادعاء للنفخ في قربة مثقوبة اسمها صدام حسين.
لم تزل، للأسف، ثمة أدمغة مغسولة منذ حقبة الدولة الفاشية التي تشكلت في أعقاب انقلاب شباط 1963: البعثيون والأخوان عارف والبعثيون ثانية في 1968 وهي أدمغة تمت برمجتها، مع سبق الإصرار والترصد، على إبداء الولاء والخنوع حتى بات الولاء للوطن لا يعني غير الولاء للحكومة.
قلنا وكررنا، ومللنا التكرار، يا جماعة الخير والشر، إن الوطن هو مكان المواطن وزمانه، فلا مواطن بلا وطن ولا وطن بلا مواطن، وما انتصار الوطن إلا بانتصار المواطن وانتصار المواطن هو انتصار الوطن، وهذا لا يستقيم بلا دولة مواطنة تحتوي الجميع وتتيح التعايش الأخوي بين القوميات والأقليات المتآخية في دولة مدنية ديمقراطية محكومة بدستور يكتبه أبناؤها لأنفسهم ويطبقه أبناؤها على أنفسهم، وليس من عنف غير العنف الشرعي الذي تمارسه هذه الدولة في الدفاع عن الوطن والمواطن، عندها، وفقط وتحديداً، يجد المواطنون أنفسهم في الموقع المدافع عن الوطن، وطنهم، لا عن حكومة تهمشهم وتنحاز إلى طائفة منهم كبيرة أو صغيرة.
الشعار سيئ الصيت: "للقلم والبندقية فوّهة واحدة" تضليلي وعصبوي صدر عن عقلية حماسية، مغرقة في عصبويتها تريد مصادرة أقلام الكتاب لتتجند في عسكر الحكومة، أي حكومة، ومنع هذه الأقلام من أداء دورها التنويري والنقدي والإبداعي وتفريغها من طاقتها الخلاقة على توليد الفكرة المختلفة، لكن المسؤولة، عن صيانة الضمير البشري العادل في تطلعه إلى المساواة والسلام والحرية.
دولة المحاصصة القومية والطائفية التي نشأت بأوامر أمريكية تعرف (أو تجهل!) أن عملية سياسية من هذا النوع ستبقى أسيرة أهدافها التحاصصية لأنها قاصرة عن الطموح في بناء دولة قوية بقوة تنوعها الإثني والديني والطائفي والثقافي وتظل بحاجة إلى مراكز القرار الكبرى، بقيادة واشنطن، لأن الأزمات المرافقة لمسيرة هذه الدولة تجعلها ضعيفة وفي حاجة دائمة لابتزاز أقوياء العالم والدول المحيطة.
"ذاك الغيم جاب هذا المطر" فما يعانيه عراق اليوم هو نتيجة طبيعية لدولة التحاصص القومي والطائفي، وليس بمقدور دولة تعاني الصراع السياسي الداخلي، وصولاً إلى الانفراد بالسلطة وجعل السلطة تقوم مقام الدولة، أن تكون جديرة بالدفاع عن الوطن ضد خطر الإرهاب والنفوذ الدولي والإقليمي.
دور المثقف، اليوم وفي كل يوم، يتلخص بإخلاصه، مواطناً محفوظ الكرامة والحقوق، لإداء واجباته نحو وطن لا حكومة طائفية ولا دولة تحاصصية فاسدة ومخترقة ومتعددة القوى ومراكز النفوذ.
دولة مواطنين تدافع عن مواطنيها = مواطنون يدافعون عن دولة مواطنين.
للقلم والبندقية ليست فوّهة واحدة كما روّج الدكتاتوريون السابقون واللّاحقون.
القلم يطلق كلماته من أجل بناء الحياة.
البندقية تطلق رصاصها من أجل قتل الحياة.
فوّهتان كل تُطلق باتجاه معاكس.
للقلم والبندقية ليست فوَّهة واحدة
[post-views]
نشر في: 23 يونيو, 2014: 09:01 م