TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ناموا على احذيتكم

ناموا على احذيتكم

نشر في: 23 يونيو, 2014: 09:01 م

نقص الرحمة في القلوب اساس تصدع السلام في المجتمعات. ان ما يحصل منذ سنوات، ويتفاقم في الاسبوعين الاخيرين، كشف درجة رهيبة من نقص الرحمة، ترجمتها الحرفية انعدام السلم.
الرحمة في المجتمعات المتحضرة، ليست فعلا عاطفيا مجردا، بل تخضع لقاعدة النفع المتبادل، كنوع من التكافل في المشاعر. ترحمه ويرحمك، فتكونان لائقين بالتواجد في تجمع متحضر يدير خلافاته بقانون عادل.
في الايام الاخيرة مثلا، تحول النزاع المسلح الى تلاعن وتشاتم يطال الاعراض، والجميع مطلع على التفاصيل في فضائحنا على يوتيوب، وفيسبوك، والمنتديات، هذه الطائفة تتحدث عن "نساء المتعة"، وتلك عن "مجاهدات النكاح" بشكل شتيمة جماعية.
وليت الامر اقتصر على شباب مترفين في بلدان مستقرة، بل صار جزءا من السجال اليومي بين عراقيين مهددين بأشد الاخطار. وليس الامر سوى مؤشر نقص التراحم في ساعات المحنة، ليس لدى القادة الذين عجزوا عن فعل شيء، بل عند الجمهور الذي هو ضحية. اننا اذن خارج مقاسات البراغماتية المطلوبة، ولاتزال شهية كثير من مجانيننا، مفتوحة لنهش لحم اخوانهم. وهذه هي الثغرة التي تخرج منها الوحوش لتخرب كل شيء.
يتحدث بعض النافذين ببرود: لن تكون هناك اي اصلاحات سياسية سريعة لتهدئة مناطق النزاع، نحتاج وقتا، وقتالا لتغيير الموازين في الميدان، وبعدها سنرى كيف نتفاوض. وبهذه الطريقة يختم حوارا انقطع بسرعة، حول خيارات منع الانزلاق نحو فاتورة دم باهظة. وهنا تفقد السياسة صفتها، من وسيلة لتقليل الكلفة، الى حيلة للتغلب والاستهانة بالدماء.
الان، بينما تحشد كل الاطراف اسلحتها وجحافلها، يضاف نحو ٧٠٠ الف عراقي الى احصائيات النزوح من مناطق النزاع الداخلية. اغاثة هؤلاء والتخفيف من مأساتهم، مسؤولية بلادنا الثرية، لكنها ألقيت الان على طرف واحد تقريبا (حكومة اربيل) التي لم يتسلم موظفوها حتى مرتباتهم، ولديها عجز مالي ليس سرياً. وهي بالاساس اضطرت لاستقبال عدة موجات نزوح طوال سنوات، ابرزها ٢٥٠ الفا من سوريا الذبيحة. والنتيجة اننا نتلقى صورا مفجعة من مخيمات مؤقتة لنازحين، من تلعفر الشيعية، او مناطق المسيحيين، او السنة، شمالا من الموصل، او جنوبا من تكريت. فمدن القتال عدا الموصل، افرغت في الغالب من ساكنيها، كما قال لي ضابط دخل مدينة العظيم صباح الاثنين حين سألته عن الاهالي وما دفعوه كثمن للقتال، فأجاب: الدور خاوية!
في وسعي مثل كثيرين، استيعاب المشهد بالتفاصيل. فقد جربت النزوح من منطقة الحرب دونما استعداد مسبق، مرارا، وكانت اقساها يوم عبرنا الحدود نحو ايران في انتفاضة ٩١ وبعد سلسلة الحماقات الكارثية لسلطان تلك الايام. العبور سلس، والمكان قريب على البصرة بحيث نشاهد بعض اضواء في العشار، عبر الشاطئ. لكن العسير هو محاولة تصديق ما حصل، من خسارة رهيبة واندفاع نحو المجهول. تلك الليلة كنا نحاول النوم، في قاعدة عسكرية، بلا وسادات، على ركام من الاسئلة الاقسى، ونضع احذيتنا كوسادة، وكنا نضع تحت رؤوسنا في الحقيقة ركام الحماقات القيادية.
لا احتاج الان ان افكر كثيرا بحجم القسوة لدى داعش، الحركة العنفية المفضوحة سلفاً، لكن في وسعي ان اتخيل قسوتنا نحن، اذ نتفرج بلا رد فعل يوازي لوعة هذه المحنة، على آلاف العوائل النازحة. وعلى الشتائم في الاعراض، التي نوجهها لبعضنا، وعلى خروجنا من قواعد التراحم بهذه الطريقة.
ليس النازحون هم الذين ينامون فوق الاحذية، بل نبدو جميعا كقبائل عاجزة، نتوسد نفس الاحذية والاخطاء، وحينها ستبدو كل لحظة عجز اضافية، مشروعية مضافة لثرثرة البنادق، واكاذيب النصر الزائف على انفسنا، وانتكاسنا المؤلم خارج الامم المتحضرة، التي لم تنجح الا حين عرفت كيف تصوغ تراحمها المتبادل، وتضامنها، حتى في اقصى مديات الخلاف، لا لمثاليات واخلاقيات، بل كي لا يضطر ابناؤها الى النوم على احذيتهم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. عراقي

    اذا كان الكذب يُنجي فالصدق آنجا اعتقد اننا بحاجة الى وقفه صدق حقيقية مع أنفسنا لطالما اجلناها توهما بدفعها الى الامام آملين ان تبدد الأيام الحاجة لها وما زادها الإهمال الا تراكم وتعقيد. ذكرني عنوان المقال بالمسلسل الكويتي القديم درب الزلق بطولة الفنان ال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram