ارتفاعُ درجات الحرارة في البصرة يجعل من الحياة عادية رتيبة، تفقد الكثير من معانيها، وسائل الاعلام والقنوات التلفزيونية بخاصة لا تمنح المرء فرصة حقيقية، وكل ما يذاع ويشاع فيها عبارة عن وجهات نظر، تتبناها الجهة هذه او تلك، هنالك انحياز واضح من قبل قناة العربية لصالح داعش او الذين تسميهم بالثوار المسلحين أو ثوار العشائر، القنوات العراقية جملة وتفصيلاً تجعلك في موقف المتحيّر بين التصديق والإيهام، ثم أنك سرعان ما تكتشف بأن الأناشيد والأغاني التي تبثها متشابهة، لا تنسجم مع مشاعرك التي تبحث عن معنى لوجودك، عن طمأنينة ظلت تنحسر شيئا فشيئاً، مع يقينك بأن رتابة حياتك لم تتغير بعد.
لا وقت لسماع أغنية، ولا سبيل إلى كأس من شراب للتخلص مما أنت فيه، حتى الحب لا يصلح لاستقامة حياة أصبحت بلا معنى، تفكر بالجند في اتون معارك ضارية، تفكر بهم وهم يخلعون جلودهم صبراً ومقارعةً، تفكر بهم وهم في مواقع شتّى من أرجاء بلادك التي يهددها الوحش داعش ابن خمبابا من كل مكان، وحين تتصفح كتاب الأثيني، الإسكندري قسطنطين كافافيس تقفز إلى عينيك فجأة قصيدته بانتظار البرابرة، هل ننتظر برابرة أكثر وحشية مما نحن فيه، وهل قمنا بتأجيل ما يكفي من أحلامنا للغد الذي قال عنه بودلير -الميت بداء جان دوفال-: العالم ممل وسخيف. أمس واليوم وغد.
عند دكانة البقال شاهدت على شاشة القناة التي دأبَ على مشاهدتها جنود يمسكون موقعاً لطالما حاول المسلحون(البرابرة) الذين عبروا الحدود مع سوريا احتلاله، ثم تستعرض الكاميرا جثثا مرمية، وبيارق محترقة. ومن بعيد ظلت تلوح أمان كثيرة، بعضها لعاملين في الموقع وأخرى لفلاحين في حقول العنب والتمر، وغيرها لمربي نعاج في رمضاء بعيدة . أسأل ما الذي يحدث في جوف المعاني الكبيرة للأشياء، وما الذي ينتظرُنا خلف الأكمة؟ وهل كانت المتاريس والمزاغل والخنادق التي بنيتها أنا ورهط واسع من جنود عراقيين في حاج عمران وعلى قمة جبل هرزلة وفي وديان بنجوين وسانوبا وعلي الغربي والعمارة وشرق البصرة والفاو. أقول هل ظلت عالقة حتى الساعة في رأسي؟ وكما لو فزعت من حلم ، لا راد له، رحت أصيح بشاشة دكانة البقال : لا، مستحيل، أنت تكذبين، أنت تحاولين سرقة أحلام أصدقاء لي هناك في الموصل وتكريت وكركوك، مثلما كنت سرقت أحلامي وأحلام أصدقائي وأهلي في البصرة وبغداد والنجف والناصرية .
حين تتسع مساحة الحلم تضيق فسحة التأويل، لا أعرف من قال العبارة هذه، ربما انا، من يدري؟ وما أعلمني فقد كتبت في دفاتر كثيرة، كنت احمل هواجس الجنود الذين وسدّتهم موتى في جبهات حروب كثيرة، ففي العام 1973،حين قدحت نار الحرب مع إسرائيل كنت جندياً في البحرية بالجبيلة، ومن القاعدة التي تلاصق ميناء المعقل أبحرتُ في بارجةٍ حربية بلغت الخليج وبحر ام قصر بعد 10 ساعات، كنت أمنّي نفسي بنصر أعود به لبيت أبي، لكن الحرب مرت على عجل وضيّع أصدقائي الجنود في فلسطين وسوريا ومصر ولبنان هناك أمانيهم، تعطلت أحلامهم فوقفت معهم أنتظر، كان السهل واسعاً والبحر كذلك كان، بما يكفي لضياع الكثير من أحلامنا. وهكذا عدتُ اقصُّ على أبي مشاهداتي عن الموج والكواسج والنجوم التي تنخسف أنوارها في الأعماق، عن الجنود الذين عادوا بالقواقع وأسماء الخلجان.
هل قلت بأن الحياة عادية، رتيبة في البصرة بسبب ارتفاع درجات الحرارة ؟ قد تبدو كذلك، وقد تبدو اكثر رتابة لأن الشاشات التي تتمرأى ساعة بساعة وهي تنقل الحدث تلو الحدث إلى صالة البيت الواسعة لم تستطع ان تفصح أكثر عن أنانيتها، لم تقدر على جلب بهجةٍ واحدةٍ لقلب يشيخ سريعاً .
القلب يشيخ والبهجة ناقصة
[post-views]
نشر في: 24 يونيو, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...