TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > فرناندو بوتيرو العودة إلى أبو غريب

فرناندو بوتيرو العودة إلى أبو غريب

نشر في: 27 يونيو, 2014: 09:01 م

(2)
لم نصَلْ بعد إلى لوحات بوتيرو عن سجن أبي غريب، وعلينا المضي بما بدأناه في الأسبوع الماضي عن أسلوب بوتيرو.
تستخدم المرآة المُضخِّمة في صالونات التجميل وبين أوساط النساء لرؤية أدق التفاصيل في وجوههنّ. في علم البصريات لا تمنح المرآة المضخِّمة التأثيرات نفسها التي تمنحها المرأة المشوِّهة (أو البشعة)، لكن من الواضح أن تضخيماً مفرطاً قد يؤدي إلى التشوَّه. امرأة فرنسية لا علاقة لها بأمر الفن، إنما بذاتها الأنثوية أمام المرآة، تُطلق على نفسها اسم ماليز، كتبتْ في مدوّنتها تحت عنوان "الظاهرة الغريبة للمرآة المكبرة" تقول: "يقيناً لست شقراء. لكن هذا الأمر لا يَشْرح أقدام الأوز حول عينيّ، هذه الحواجب الكثة التي لم تكن أبدا هنا عندما كنتُ أنظر في المرآة هذا الصباح نفسه! أما هذان الخدان المنتفخان والعينان المخطّطتان، فليست كلها لي في الواقع!. لا تفسير سوى تفسير واحد: كنتُ على خطأ، هذه المرآة ليست مُكبِّرة، إنها مُشوِّهة".
مشاهِد بوتيرو تقوم على رؤيةٍ من هذا القبيل. إنه يكبِّر الصورة حتى يجعلنا، من دون أدنى الدراماتيكية بل بروح ساخر مرير، نرى التفاصيل التي كنا نعتقد أنها ليس من طبيعتنا، ولا من خِلقتنا. نرى فجأة حواجب كثة وخدين غريبين وعينين مرسومتين بالتجاعيد. في لوحات بوتيرو نشاهد كروشنا المتدلية وعاناتنا وطبقات الشحم على بطوننا وسيقاننا، ونجد أن تسريحاتنا مضحكة في الحقيقة ومهندسة بتقعّر، وأن لقطاتنا العائلية التي كنا نظنها في غاية الرصانة والوقار إنما هي محض تصنُّع وحشو، وصورٍ كاريكاتوريةٍ في نهاية المطاف. إننا أمام "رطانة" بصرية، إذا حق لنا استخدام مجاز بلاغيّ في هذا السياق.
لن يشكّ أحد أن بوتيرو مشغول باليوميّ، بالمعنى الذي نستخدمه: العاديّ، الروتينيّ، المبتذل، المعتاد. سواءً كان هذا اليومي من الطبيعة التي يختطها لوفيفر بصفته المَهْرب الذي تشجّع عليه الثقافة الجماهيرية، ليكون (اليومانيّ) بالتالي فاقداً للإصالة والإبداع والاكتشاف، ويصير ترجمة للرغبات التي تجعل الكائن سلبياً. أو من طبيعة ذاك (اليومانيّ) الذي يختطه ناقد لوفيفر، مافيزولي الذي يذهب إلى أن نقد الثقافة الجماهيرية اللوفيفريّ المُعتبرَة محض مظهر اجتماعيّ، يستند إلى (ميتافيزيقيا الأصالة المتوهَّمة).
إن هذا اليومي، خرَج من ثقافةٍ شعبية جماهيرية، ذات أصالة أو غير ذات أصالة، أو لم يخرج، يتضخّم في لوحات بوتيرو إلى درجة نشعر معها بنوع من الاختلال في الأشكال الطبيعية. تضخُّمه الظاهر على الأجساد البشرية بشكل خاص، ليس من أعراض مرض السمنة، بل من أعراض وجودٍ إشكاليّ، يودّ بكل ثمن تكبير صورته لكي يحضر بقوة أمام العيون، أي لكي يحضر في العالم، لكنه، وهو يقوم بفعل "تعظيم" مظهر وجوده الخارجيّ، يقوم في الحقيقة بتضخيم الوجود إلى درجةٍ تشابه مَسْخِه. أليس المسخ نوعاً من (واقعية سحرية) يمكن اللقاء بها في روايات ماركيز مثلاً؟. هكذا تصير الحياة في لوحات بوتيرو سلسلة من الاستعراضات التي يرغب الأفراد فيها بالحضور المتضخّم في العالم. فعل التضخيم هو فعل انمساخ وجودي وتحوّل للكينونة العميقة نقوم به بمحض إرادتنا في الغالب.
إذا ما وَجَدَ بطل كافكا نفسه ذات يوم حشرةً، فأن أبطال بوتيرو يستفيقون ليجدوا أنفسهم في مرض السمنة، كلهم يعانون من عِلّة الوجود، بطريقة مأساوية مرعبة بالنسبة لفضاء كافكا، وبطريقة استعراضية مرحة بالنسبة لفضاءات بوتيرو التصويرية. المسخ الناعم، غير الكابوسي واقعٌ على شخصيات بوتيرو، وهو مبدأ يساعدنا على فهم مشكلاتها، خاصة مشكلاتها على المستوى السوسيولوجيّ والوجوديّ.
لتلك الأسباب فإن هذا الوجود ليس وجوداً مثالياً، حتى وإنْ رأينا مسحة من الوقار المفتعَل فيه، وحتى لو استمتعنا بمبالغة التلوين الزاهي في فضاءاته. بينما هذه الأجساد، خاصة نساء بوتيرو العاريات لا تتطابق أبدا مع قانون الجمال الإغريقيّ الشهير. قانون الجمال حسب بوتيرو هو المعارَضة الكاملة للجماليات الإغريقية والرومانية. ولنا عودة.
 يتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram