TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > المدينة في العراق ومدارس العمارة والتخطيط

المدينة في العراق ومدارس العمارة والتخطيط

نشر في: 27 يونيو, 2014: 09:01 م

شير مصطلح مدارس العمارة والتخطيط الى مفهومين مختلفين، يتعلق الاول بالمعنى الحرفي الكلمة أي المعاهد والمؤسسات التعليمية التي تهدف الى تخريج معماريين ومخططين قادرين على ممارسة هذه المهنة، في حين يتعلق المفهوم الثاني بالمحتوى الفكري والاتجاه الفلسفي الذ

شير مصطلح مدارس العمارة والتخطيط الى مفهومين مختلفين، يتعلق الاول بالمعنى الحرفي الكلمة أي المعاهد والمؤسسات التعليمية التي تهدف الى تخريج معماريين ومخططين قادرين على ممارسة هذه المهنة، في حين يتعلق المفهوم الثاني بالمحتوى الفكري والاتجاه الفلسفي الذي تحمله مدرسة ما، أذ توجِد وتحدد مسارا ً إبداعيا ً خاصا ً بها لتتفرد به ولتكون رائدة في بث محتوياته والعمل على تطبيقها. وفي الواقع فأن القليل جدا ً من مؤسسات التعليم المعماري والتخطيط الحضري تتحول الى مدارس رائدة فيهما.

 

ان المفهوم الثاني المتعلق بالمذهب الفلسفي والفكري لمدرسة معمارية ما هو موضوع الحديث هنا، فأن أنشاء مدرسة أو معهد معماري هو أمر يحتاج الى بعض التمويل المالي بالاضافة الى الترتيبات الادارية والقانونية ويعتمد على حاجة المنطقة وسوق العمل Labour Market ، بالاضافة الى عوامل أخرى أكثرها موضوعية خارجة عن حدود هذه المؤسسة التعليمية ذاتها ولكنها مؤثرة فيها. وإذا اقتصرت مدرسة العمارة على هذا المفهوم ولم تتعداه تحولت الى مجرد ناقل للمعلومات ومقلد لمدارس أخرى، وغالبا ً ما تسقط في النمطية Typicality والتراجع Regression والابتذال الفكريVulgarity والاختزال العملي والفقر التصميمي، وهذه بعض صفات مدارس العمارة العراقية الحالية.
هناك عوامل عديدة تساهم في صنع الأرضية الملائمة لإقامة مدرسة معمارية ذات فكر محدد وتوجه واضح للتعامل مع البيئة الحضرية المحيطة وكيفية خلق تراث حضري ومعماري مرتبط بماضية وفعّال في حاضره ومستقرئ لمستقبله، أهمها الموروث الحضاري Cultural Heritage ومدى عمقه التاريخي، والنواحي الحيوية في هذا الموروث والذي تمنحه القدرة على الاستمرار في الحياة، وقدرة الكوادر المعمارية والتخطيطية Manpower على أعادة أحياءه، بالاضافة الى تفاعل المجتمع Society Consciousness معه وتفهمه له، يضاف الى كل ذلك قابلية كل هذه الأطراف على التفاعل مع المتغيرات المعاصرة لها. ولا يغيب عن أحد ذلك العمق التاريخي الذي يمتلكه الموروث الحضاري في العراق، وتعدد عوامل الحيوية فيه، ولم يخل العراق يوما ً من الإمكانات البشرية المؤهلة – مع أن الواقع المعاصر يشير الى تشتتها بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العراق -، أما تفاعل المجتمع فأنه يتذبذب بشكل متغير ويبدو أنه يمر في أسوء مراحل وعيه في الوقت الحاضر. وأن مُني كل ذلك بحصار بيّن من الدكتاتورية الأخيرة والتي جعلته في معزل عن العالم لعدة عقود فأنه يشهد الان انفتاحا ً متسارعا ً يستند في مجمله الى قواعد هشة يجعله سلبيا ً أكثر بكثير من كونه إيجابيا.
فهل ضمنت هذه العوامل نشوء مدرسة أو مدارس معمارية عراقية لها كينونتها وكيانها المتميز، وتوجهها الواضح، وقدرتها على التأثر والتأثير والتفاعل والإحاطة بمتطلبات المدينة في العراق وبعمارتها؟ وإذا افترضنا وجود مدرسة معمارية عراقية مستقلة بخطها الفكري وخاصة في وقتنا الحاضر – وهو أمر يصعب التسليم به – فما هو المحتوى الفكري الذي تحمله؟ وما هو الدور الذي تلعبه في تهيئة كوادرها أولا ً، وفي نشر ثقافاتها التخطيطية والمعمارية في المجتمع ثانيا ً؟ ولن نطمح الى نشر هذه الثقافة خارج حدود البلد كما تفعله بعض المدارس المعمارية الأخرى التي هي أقل شأنا ً وأقصر عمرا ً وأضعف تأريخا؟
لعل أفضل مثال للمقارنة هنا هو المدارس المعمارية والتخطيطية الأسكندنافية والتي لا تمتلك معشار الخزين الحضاري الذي تملكه مدارس العراق، ولا تملك العمق التاريخي هذا ولا ضخامة التجربة التي تعرضت وتتعرض لها مدارس العراق، ولا التلاقح الحضاري الذي شهدته وتشهده مدارسنا هنا. مع ذلك فقد استطاعت تلك المدارس وفي غضون عقود قليلة ان تخلق كياناتها المتميزة وخطوطها الفكرية الواضحة لتتجاوز بناء حواضرها الى محاولات جريئة في الانتشار خارج حدودها بل والى العالمية Globalization ايضا ً. فقد تميزت المدرسة المعمارية الفلندية بطابعها الخاص الذي ساهم فيه بوضوح رائدها المعمار Alvar Alto والذي نقل تجاربه الى مواطن عديدة كالولايات المتحدة (Baker Dormitory, at Cambridge, Massachusetts, 1947 ) وألمانيا (Flats at Bremen, at Neue Vahr district, Bremen, 1958 ) وإيطاليا (Riola Parish Church, at Riola, 1975 )، وكذلك الطابع المحلي الذي تميزت به برغم انجراف العمارة آنذاك الى تيار العالمية International Style. كما أنتجت المدرسة الفلندية روادا ً آخرين أمثال Eliel Saarinen الذي بدأ دراسته وعمله في فنلندا وشارك في تأليف ما يسمى بـ Fennia Series لصناعة الاواني الفخارية العربية Arabia Pottery ، والذي فاق شهرته أبنه المعمار Eero Saarinen الذي انتقل مع والده الى اميركا وهو في سن الثالثة عشرة واشتهر بتصميمه لمطارات TWA في نيويورك و واشنطن دوللس في فيرجينيا و مبنى مركز جنرال موتورز في ميشيغان. ومن معماري هذه المدرسة كان Heikki Siren الذي منح بغداد رائعته قصر المؤتمرات 1983.
أما تجربة جارتها المدرسة السويدية فقد تضمنت عددا ً من النجاحات والإخفاقات في ذات الوقت، وان كانت المدرسة السويدية لم تنتج عمارة مميزة وجريئة بشكل بيّن ولم تتخللها أسماء مرموقة الا انها أنتجت تجارب مكثفة في التخطيط الحضري وخصوصا ً في القطاع السكني في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومن ثم لحقتها تجربة برنامج المليون مسكن 1965-1975 تم فيها بناء اكثر من مليون وحدة سكنية لتلافي مشكلة السكن حينها. وأصبحت معظمها أمثلة يتناولها دارسوا التخطيط الحضري برغم كثرة الأخطاء الحاصلة فيها. وضع ملامح هذه المدرسة رواد أمثال Gunnar Asplund و Ragnar Ostberg و Backstrom & Reinius و White Architects كما ساهم فيها معماريون من أصول غير سويدية مثل البريطاني Ralph Erskine و النمساوي Josef Frank .
لم تكن جارتهم النرويج صاحبة مدرسة معمارية واضحة الملامح، غير أن الجارة الاخرى الدنمارك امتازت بمدرسة معمارية وتخطيطية رفيعة المستوى عالية التقنيات متكاملة الملامح ذات نتاج نظري وعملي غني، وأستطاعت أن تصنع عددا ً كبيرا ً من رواد العمارة الافذاذ الذين أستطاعوا أن يخترقوا آفاق العمارة في شتى بقاع العالم، مثل Jorn Utzon ورائعته Sidney Opera House في أستراليا، و Johann Spreckelsen ورائعته Grande Arche في باريس، وأعمال Bjarke Ingels و Henning Larsen و Jan Gehl في دول مختلفة، كما ترك لنا المعماريان Dissing & Weitling ذلك المبنى الجميل في بغداد – البنك المركزي العراقي - . فهل هي المدرسة من صنع كل هؤلاء الروّاد أم الروّاد هم من صنعوا المدرسة؟ 
هذا السؤال الذي لابد من نقله الى واقع مدرسة العمارة والتخطيط العراقية، فأن كان الروّاد، فأن روّاد العمارة العراقية كثر، فأين هي المدرسة؟ وماهي ملامحها؟ وما هو دورها في بناء المدينة في العراق؟ بل ماهو دورها في تشكيل ذاتها؟ 
فأن امتلك العراق الكثير من ركائز أقامة مدرسة معمارية، فهل تمكن روّادها أن يخلقوا ملامحها ويضعوا خطوطها العريضة واضحة أمام الاجيال اللاحقة؟ وهل فيهم من كان يفكر في التأسيس لهذه المدرسة؟
وأن كانت المدرسة هي من يصنع روّادها، فما هي خصائص هذه المدرسة؟ وكيف يمكن تعريفها والتعرف عليها؟ وما هي نتاجاتها؟ وهل تملك العمارة العراقية حقا ً مدرسة قادرة على التأثير في واقع المدينة في العراق وفي التأسيس لطرائق وأساليب بشيء من التكامل لإيجاد حلول مناسبة للخروج بها من هذا الوضع المزري؟
قد يكون من المبالغة أن نقارن المدرسة العراقية بمدارس أخرى عريقة بغض النظر عن عمرها الزمني، كمدرسة South California Inst. Of Architecture والتي خرج منها معماريون ذوو شأن مثل Peter Cook و Thom Myne ، ومدرسة AA, Architecture Association of Architecture اللندنية والتي خرجت منها أسماء معروفة مثل John Ruskin و Gillbert Scott و Richard Rogers.ولكن هناك مدارس أخرى نشأت في مجتمعات صغيرة قياسا ً بسابقاتها وبأمكانات قد تملك مدرسة العراق مثلها أو أكثر، كالأكاديمية الملكية للفنون في الدنمارك، ومدرسة العمارة في زيورخ – سويسرا ETH. وليس من المبالغة القول أن ما تملكه المدرسة العراقية من الركائز التي تم ذكرها في بداية المقال لا تقل وزنا ً عما تملكه هاتان المدرستان أن لم يزد عليها. فما الذي يجعل المدرسة العراقية تفقد وزنها أمامهما؟ ولماذا لم تستطع هذه المدرسة النهوض رغم امتلاكها هذه المقومات؟ ولماذا عجز روّادها عن تشكيل المدرسة هذه والخروج بصورة واضحة لها لتكون قادرة على بناء المدينة في العراق بهياكلها الحضرية وبمبانيها؟
أن واقع مدرسة العمارة في العراق – هذا أذا سلمّنا بوجود مدرسة – يشير الى انها ليست سوى جهود فردية لروّاد بذلوا ما استطاعوا دون أن تجتمع جهودهم بشكل منظّم وبشيء من التكامل من أجل بناء هذه المدرسة، ولعل ضروف العراق القلقة منذ عقود طويلة كانت ومازالت السبب الرئيس وراء هذا التشتت وضعف الالتقاء والتخطيط. كما ان هذا يفسر بشكل ما وجود بعض الملامح المتناثرة لمدرسة معمارية ذلك أنها تعتمد في معظمها على مثل هذه الجهود الفردية، في حين تكاد تختفي ملامح المدرسة التخطيطية تماما ً برغم الإرث الحضري الثري الذي يمتلكه العراق باعتباره صانع أولى مدن التأريخ وأعرقها وقد لا يوجد بلد قد أمتلك عددا ً من العواصم كالعراق، مثل أريدو وبابل ونينوى و الكوفة وبغداد. كما ان الواقع لا يشير الى أن مدارس العمارة الحالية التي مازالت تجتر ّ الوظيفية Functionalism منذ ما يقارب قرنا ً من الزمان دون أن تجد الجرأة على تخطيها والتخلص من ثقلها الذي لم يمنح المدينة في العراق سوى مزيدا ً من الفظاظة. و بعبارة أخرى فأن مدارس العمارة والتخطيط في العراق لن يُتنظر منها ان تغير واقع المدينة المأساوي ذلك أنها ليست بمدارس.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

القضاء ينقذ البرلمان من "الحرج": تمديد مجلس المفوضين يجنّب العراق الدخول بأزمة سياسية

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram