في الحلقة الأولى وقفت عند النزعات النفسية للجماعات، أو سموها الشعوب إن أحببتم. اليوم سأقف باختصار عند نقطة سيكولوجية أخرى لها علاقة مباشرة بنشوب الحرب: إنها "سايكولوجية الديكتاتورية". نظريات كثيرة تناولت هذا الجانب لكن "نظرية ستيكل" تعد من أفضلها وأكثرها شيوعا. النظرية تقوم على ما يسميه "عقدة السلطة" وتفسر المزاج "النيوروزي" للدكتاتور وتوضح أسباب خضوع معظم الناس لسلطته.
من بين ما جاء في تفسيراته ان "الأطفال الذين حنقوا على سلطة والديهم هم انفسهم الذين وجدوا في الدكتاتور عوضا عن آبائهم .. لكن الناس لا يحنقون على سلطة الدكتاتور أو الزعيم كما حنقوا على سلطة الأب لأن شك الناس في عصمة الزعيم يقل كلما زاد عدد اتباعه أو أنصاره".
أما نزعة "النيروز" فيراها ستيكل ظاهرة عند جميع الطغاة لان في تاريخ حياة كل منهم، حسب نظريته، يمكن ان نجد عاهة جسدية أو نفسية تفسر شذوذه:"معظمهم ولد في فقر مدقع أو عانى طفولة مهشمة أو نشأ من أصل حقير ومن ثم فهم يحاولون تعويض شبابهم القاسي بطلب المجد أو السلطة".
أما "النيوروز" (بالإنكليزية: Neurosis)، فهو عصاب يتكون من مجموعة مركبة من الأمراض النفسية وحتى العقلية تدفع صاحبها إلى الميل نحو العدوانية والكراهية. من بين تلك المركبات نشير إلى حالة "البارانويا" التي تلعب دورا في تكوين الأسباب السايكولوجية للحرب. والبارانويا حالة مرضية تنجم عن أوهام ثابتة في مقدمتها الشعور بالاضطهاد، إذ يعتقد الفرد انه مضطهد ويحيط به أعداء يتآمرون عليه. من الضروري الإشارة إلى ان كل إنسان قد تظهر عنده هذه النزعة إلى حد ما. لكنها ان أصبحت أسلوبا دائما في مواجهة مشكلات الحياة فإنها عندئذ تصبح خطرا يهدد الفرد والمجتمع. الأمر يتوقف على البيئة الاجتماعية التي قد تهذب البارانويا أو تغذيها وتحولها إلى عقدة مرضية مستعصية. يذكر العلماء في هذا المجال جملة عوائق اجتماعية يواجهها الفرد في مختلف مراحل حياته قد تولد النزعة البارانوية عنده. منها "قسوة الأحوال التي يجد نفسه فيها رغما عنه (كأن يكون ابنا غير شرعي) أو الدمامة أو العاهات الجسدية الظاهرة، أو الفقر ونقص التعليم والطموح الذي يجاوز القدرة على تحقيقه".
المشكلة تكمن في تضخم أوهام الاضطهاد عند الحاكم فيرى ان كل حركة من حركات الدول الأخرى أو من الحركات السياسية المعارضة له تحرش به شخصيا ويستهدفه أمنيا. ومن هنا تسيطر عليه أوهام العظمة كردة فعل مضادة لمخاوفه الوهمية. ومن هنا أيضا نجده ينزع نحو الطغيان والاستبداد ويبدأ يرى في نفسه مواهب خارقة وينظر إلى غيره بنظرة المتغطرس.
المشكلة الأكبر، عندما تنتقل تلك الأوهام من الحاكم إلى الشعب فيرى نفسه أفضل من غيره وانه يتفوق على المكونات الأخرى عنصريا أو دينيا أو مذهبيا.
خلاصة رأي علماء نفس الحرب ان الشعب عندما تنتقل إليه عدوى أوهام البارا نويا ومن ثم أوهام الشعور بالعظمة، لن يكون نشوء الحرب أمرا بعيد الاحتمال.
عن علم النفس والحرب (2)
[post-views]
نشر في: 28 يونيو, 2014: 09:01 م